ولكنهم كانوا يؤمنون بالفلسفة اليونانية ايمانا عميقا ، وينزلونها من نفوسهم منزلة الوحي المعصوم ، ولما كانت هذه الفلسفة تناقض قواعد الشريعة مناقضة صريحة فقد تظاهر هؤلاء الفلاسفة بأن غرضهم هو التوفيق بين الفلسفة والدين ، لأن كلا منهما حق في زعمهم والحق لا يتناقض ، ولكنهم في حقيقة أمرهم كانوا زنادقة ملحدين ولهذا تراهم يجعلون مبادي الفلسفة هي الأصل ويحاولون أن يجروا الدين إليها ويخضعوه لقواعدها ، وإذا هم أظهروا شيئا من الاحترام للنصوص ، فإنما يفعلون ذلك مصانعة للمسلمين. ويدلك على مبلغ زندقة هؤلاء الفلاسفة وبعدهم عن الدين ما ذهب إليه مقدمهم وحامل لوائهم وهو ابن سينا القرمطي في كلام الله عزوجل فهو يرى أنه فيض من العقل الفعال الذي هو العقل العاشر عندهم ، ويسمونه عقل القمر وينسبون إليه جميع الحوادث في عالم العناصر ، فهو الذي يفيض الصور على الموجودات ، ويهب الحياة للأحياء ويفيض العلوم والمعارف على العقول الانسانية.
ويصور ابن سينا هذا الفيض بأن نفس النبي لشدة صفائها تكون كالمرآة المجلوة فتنعكس المعاني من العقل الفعال عليها وتنطبع فيها ، ثم أن القوة المتخيلة للنبي تتلقى هذه المعاني المجردة فتجسمها في حروف وألفاظ ، ولما كان خيال النبي صلىاللهعليهوسلم في غاية القوة فإنه يخيل إليه أنه يرى شخصا خارجا ويسمع كلاما ، وليس هناك في الحقيقة شخص ولا كلام مسموع من خارج ، وإنما هو صوت ينبعث من داخل نفسه ، وهكذا ينزل القرآن على النبي معاني مجردة من العقل الفعال وهو لقوة بيانه وفصاحته يلبس هذه المعاني ألفاظا من تأليفه ، ولهذا جاء به كتاب خطابة ومواعظ وليس كتاب عقل وبرهان ، فهو أنما ينفع في اقناع العامة والتأثير عليهم ولكنه في رأي هذا الملحد وأضرابه لا يصلح للخاصة الذين يطلبون البرهان وهو في رأيه أيضا لم يصرح بالحق الذي يجب اتباعه ولكنه رمز إليه مجرد اشارة لمعان.
يقول ابن سينا في رسالته العرشية «فوصفه بكونه متكلما لا يرجع الى ترديد العبارات ولا الى أحاديث النفس ، والفكرة المتخيلة المختلفة التي العبارات دلائل