يخفى ما في هذه الشبهة من المغالطة ، فإننا نثبت هذه الصفات لله على ما يليق به سبحانه ، فلا ننفيها كما نفتها المعطلة ، ولا نمثلها بصفات خلقه كما فعلت الممثلة ، وبذلك لا يقتضي اثباتها جسمية ولا حدوثا ، ولا يلزمنا ما أورده من اللوازم لكنهم توهموا أن معاني هذه الصفات في الغائب لا يمكن أن تعقل إلا كما هي في الشاهد ، فقاسوا الله عزوجل على خلقه، وظنوا أن مقتضى التنزيه هو نفي هذه الصفات رأسا ، دون الاكتفاء بنفي المماثلة عنها ، فجرهم هذا الغلو في التنزيه الى الوقوع في التعطيل وجحد ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله ، وتوسعوا في صفات السلوب ، حتى يخيل لمن يطالع كتبهم أنهم لا يعنون بهذه الصفات شيئا موجودا متحقق الثبوت ، وإنما يصفون بها أمرا افتراضيا صرفا لا حقيقة له، وكأني بك أيها القارئ تنظر إلي في دهشة وتسألني في عجب من أين لهؤلاء ذلك النفي الصرف والتجريد المحض ، وهو لا أصل له في دينهم ، ولا دليل عليه من كتاب ربهم ولا من أقوال نبيهم ، ولا هو مما نقل عن أحد من سلف هذه الأمة الذين هم أكملها علما وايمانا ، وهل يعقل أن هؤلاء المعطلة قد علموا من حقائق التنزيه ما لم يعلمه الله ولا رسوله ولا أحد من سلف هذه الأمة؟ وإني أقول لك مهلا أيها القارئ الكريم ، فسأحدثك عن الأسباب التي أوقعت هؤلاء في تلك الفتنة وأوردتهم موارد الهلكة ، حتى يبطل بذلك عجبك وتزول دهشتك ، لقد نظر قدماء هؤلاء المعطلة في كتب فلاسفة اليونان وغيرهم ، فوجدوا أنه يثبتون إلى جانب هذا الوجود المادي المتمثل في الجواهر والاعراض وجودا آخر مجردا عن المادة وعلائقها ، فهو ليس بجسم ولا عرض ولا عرض ولا بذي صورة ولا مقدار ولا كيفية ولا يشار إليه بالإشارة الحسية بأنه هنا أو هناك ، ولا يجوز عليه قرب ولا بعد ، ولا اتصال ولا انفصال ، ولا صعود ولا نزول الخ ما نعتوه به من السلوب التي تحيل وجوده وتجعله من قبيل المعدومات والممتنعات.
وكان الفلاسفة يقولون أن هذا الوجود المجرد هو أكمل من الوجود المادي لأنه لا يجوز عليه التغير والاستحالة ولا تحله الاعراض ، وكانت المجردات عندهم هي الله والعقل والنفس والهيولى والصورة.