يخلق هذا العالم ، ثم ابتدأ الخلق ، وكان هذا مما أعان الفلاسفة عليهم حيث أوردوا عليهم أنه يلزم حدوث شيء في ذاته اقتضى الفعل بعد أن لم يكن مقتضيا ، كأن كان عاجزا فقدر ، أو كان فاقدا لآلة فوجدها ، أو كان غير مريد للفعل ثم أراد الخ.
فإن قلتم أن الإرادة قديمة والقدرة موجودة في الأزل وجميع الشرائط المعتبرة في الفعل مستكملة ، فما الذي منعه من أن يفعل وليس لكم أن تقولوا ان الإرادة القديمة إنما تعلقت بالايجاد في هذا الوقت دون غيره ، فان الأوقات كلها متساوية بالنسبة للارادة في الأزل وليس وقت منها أولى من غيره ، ولأجل التأويل أيضا نفي الجهم وأشياعه من الفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة الحكمة عن فعله تعالى ، وقالوا أن أفعاله لا تعلل بالأغراض والغايات ، فإن الفاعل لغرض مستكمل ، وتوهموا أن اثبات غاية باعثة له عزوجل على الفعل نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه ، وجوزوا ترجيح القادر لأحد الأمرين المتساويين بلا مرجح ، وفاتهم أن مثل ذلك يكون عبثا يستحيل صدوره عن الله عزوجل ، على ان الغايات والمصالح التي من أجلها يفعل ربنا سبحانه ظاهرة متجلية في كل ما خلقه أو أمر به ، والقرآن والسنة فيهما الكثير من تلك الحكم التي لا ينكرها الا مكابر مثل قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] ومثلها قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ومثل قوله جل وعلا : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣](ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦](يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة : ٩٤](وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣](وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ