جبر على العبد لا اختيار له فيه فيلزم هذا الجبر أن لا يقر على نفسه بذنب ، وأن يحمل ذنوبه كلها على القدر كما يحمل السقف على قوي الجدر. وأن يفتح لنفسه باب العذر في كل ما يرتكب من وزر إذ يرى أنه لا فعل له. وأن الأفعال كلها صادرة من الله جل شأنه ويلزمه أيضا أن يسوي بين ما يصدر عنه بإرادته واختياره ، وبين ما يصدر منه على جهة الضرورة كحركة الرعدة والارتعاش ، فلا يحس فرقا بين الذنوب التي تصدر عنه باختياره ، وبين رعشة الشيخ الكبير التي تصدر عنه بلا قصد منهن بل بسبب الهرم والضعف فالعبد عنده ليس بفاعل على الحقيقة. ولا هو قادر على الفعل بل هو كالميت المدرج في أكفانه لا قدرة له على حركة أصلا. ويلزمه أيضا أن الله كلف العباد ما لا يطيقونه ، وأنه أمرهم ونهاهم بما لا قدرة لهم على فعله أو تركه ، فهو كأمر العبد بأن يطير في الهواء مع عجزه عنه إذ لا أجنحة له تساعده على الطيران ، أو كأمر الأعمى الذي لا يبصر بأن يضع النقط على حروف المصحف أو يشكله خوفا من وقوع اللحن في قراءته. ومعلوم أن الأعمى لا قدرة له على ذلك. وفي هذا نسبة العبث إلى الله جل شأنه.
وهذا الذي ذكرناه من مذهب الجبرية ، إنما هو قول عامتهم ، واما متصوفتهم ممن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية والربوبية الشاملة فيرون كل ما يصدر من العبد من ظلم وكفر وفسوق هو طاعة محضة لأنها إنما تجري وفق ما قضاه الله وقدره ، وكل ما قضاه وقدره فهو ، محبوب لديه مرضي عنده. فإذا كان قد خالف أمر الشرع بارتكابه هذه المحظورات فقد أطاع إرادة الله ونفذ مشيئته. فمن أطاع الله وقضاءه وقدره هو كمن أطاعه في أمره ونهيه كلاهما قد قام بحق العبودية لله إلا أن هذا عبده بامتثال أمره وهذا عبده بتنفيذ مشيئته. فمن حقق الأمر لم يجد فرقا بين العبوديتين بل وجد العبادة بالمشيئة أليق بمن لا يرون لأنفسهم فعلا وأن الأفعال كلها من الله.
فانظر يا أخا العقل والدين إلى ما انتهت جيم الجبر إليه ، وكيف قادت صاحبها إلى شر أنواع الكفر والبهتان ، فجعلته يسوي في النهاية بين الإيمان