وليس يبلغ بهم الأمر إلى هذا وهم متمكّنون ممّا يوقع الشّبهة ، ويضعف أمر الدّعوة ، فيعدلوا عنه مختارين ، وأحلامهم وإن وفرت ، وعقولهم وإن كملت ، وادّعي أنّها تمنع أمثالهم من الإقدام على المباهاة ، والتّظاهر بالمكابرة ، وادّعاء ما تشهد أنفسهم ببطلانه ، وتوقن قلوبهم بفساده ؛ فإنّ الحال الّتي دفعوا إليها حال تيسّر العسير ، وتصغّر الكبير. ومن أشرف على الهوان بعد العزّة والقصور بعد القدرة خفّ حلمه ، وعزب (١) علمه ، وركب ما كان لا يرتكبه ، وأقدم على ما كان لا يقدم عليه.
وليس يمكن أحدا أن يدّعي أنّ ذلك ممّا لم يهتد إليه العرب ، وأنّه لو اتّفق خطوره ببالهم لفعلوه ، غير أنّه لم يتّفق ؛ لأنّهم كانوا من الفطنة واللّبابة على ما لا يخفى عليهم معه أنفذ الكيدين ، وألطف الحيلتين ، فضلا عن أن يذهبوا عن الحيلة وهي بادية ، ويعدلوا عن المكيدة وهي غير خافية.
هذا ، مع صدق الحاجة وقوّتها ، وضيق الحال وشدّتها ، والحاجة تفتق الحيلة ، وتبدي المكنون ، وتظهر المصون.
وهب لم يفطنوا لذلك بالبديهة وقبل الفكرة ، كيف لم يقعوا عليه مع التغلغل ، ويظهروا به مع التّوصّل؟! وكيف لم يتّفق لهم مع فرط الذّكاء وجودة الآراء ، من الكيد إلّا أضعفه ، ومن القول إلّا أسخفه؟! وهذا من قبيح الغفلة الّتي يتنزّه القوم عنها ، ووصفهم الله تعالى بخلافها.
وليس يرد مثل هذا الاعتراض من موافق في إعجاز القرآن ، وإنّما يصير إليه من خالفنا في الملّة ، إذا بهرته الحجّة وأعجزته الحيلة ، فيرمي العرب بالبله والغفلة ، ويقول : لعلّهم لم يعلموا أنّ المعارضة أنجع وأنفع ، وطريق الحجّة
__________________
(١) أيّ بعد.