وأصله مجاوزة الحدّ. والمراد منه نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي في نسبة ما ليس بحق ، إليه سبحانه. وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك ، لظنهم أن أحدا لا يكذب على الله ، حتى تبيّن لهم بالقرآن كذب السفيه وافتراؤه. (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول : أعوذ بعزيز هذا الوادي ، فزادهم ذلك إثما. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن وأن رؤساءها تحميهم منهم. وهكذا قال إبراهيم : كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه ، فتقول الجن : ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرّا ولا نفعا.
وقال الربيع بن أنس : كانوا يقولون : فلان من الجن رب هذا الوادي ، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله. قال : فيزيدهم ذلك رهقا ، وهو الفرق.
وقال ابن زيد : كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قبل الإسلام قال : إني أعوذ بكبير هذا الوادي. فلما جاء الإسلام ، عاذوا بالله وتركوهم. انتهى.
أي : لأن ذلك من الشرك ، ولذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله تعالى وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره. وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة ، فإنها للإرشاد لذلك.
روى مسلم (١) عن خولة بنت حكيم قالت : من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك.
قال بعضهم : في الحديث تفسير آية الجن ، وأن ما فيها من الشرك ، وأن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر ، أو جلب نفع ، لا يدل على أنه ليس من الشرك.
وفي الآية تأويل غريب نقله الرازي وهو أن المراد كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا ، لكن من شر الجن ، مثل أن يقول الرجل : أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي. وأصحاب هذا التأويل ، إنما ذهبوا إليه لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن. وهذا ضعيف ، فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا. انتهى.
__________________
(١) أخرجه في : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، ٥٤ و ٥٥.