القول في تأويل قوله تعالى :
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤)
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قال ابن جرير : أي صحف أعمال العباد نشرت لهم ، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [ابراهيم : ٤٨] ، (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي أوقد عليها فأحميت. قال قتادة : سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي قربت للمتقين (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علمت كل نفس عند ذلك ، ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة ، أو شر فتصير به إلى النار. أي تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به ، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. و (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط.
القول في تأويل قوله تعالى :
(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٢١)
(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) أي الرواجع من النجوم. من (خنس) إذا رجع وتأخر. قال الزمخشريّ : بينا ترى النجم في آخر البرج ، إذ كرّ راجعا إلى أوله (الْجَوارِ) جمع جارية ، من الجري (الْكُنَّسِ) أي الغيب التي تدخل في بروجها ، في رأي العين. من (كنس الوحش) إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر. فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه ، ثم صار بالغلبة في الاستعمال ، حقيقة (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي أدبر ولم يبق إلا اليسير ، وذلك وقت السحر (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي أقبل وتبيّن. أو هبّ نسيمه اللطيف أو انجابت عنه غمة الليل وكربته. تشبيها بمن نفس عنه كربه. قال الإمام : أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ لينوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدّرها ، وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام ، مع نعتها ، في القسم ، بما يبعدها عن مراتب الألوهية ، من الخنوس والكنوس ، تقريعا لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أربابا. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد ، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت. انتهى.