قيل : إلا أمرا نادرا لا يعلم. فإذا دل مثله على القلة عرفا ، والقلة قد يراد بها النفي في نحو (قلّ من يقول كذا مجازا) أريد بالاستثناء هنا ذلك. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله : (أو قال إلا ما شاء الله) والغرض نفي النسيان رأسا ، كما يقول الرجل لصاحبه (أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله) ولا يقصد استثناء شيء. وهو من استعمال القلة في معنى النفي.
وقال الفراء ـ فيما نقله الرازي ـ : إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمدا صلىاللهعليهوسلم شيئا ، إلا المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيرا ناسيا لقدر عليه ، كما قال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ، ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرّفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه ، لا من قوته. انتهى.
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي ما يجهر به عباده وما يخفونه من الأقوال والأفعال. وهو تعليل لقوله : (سَنُقْرِئُكَ) مبين لحكمته ، وهو سبق علمه تعالى بحاجة البشر إلى إقرائه الوحي وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.
ثم أشار إلى أن هذا المقرأ الموحى به للعمل. ليس فيه حرج وعسر ، بقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي نوفقك للطريقة اليسرى ، أي الشريعة السمحة السهلة ، التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة البشر مدى الدهر (فَذَكِّرْ) أي عباد الله عظمته ، وعظهم وحذرهم عقوبته (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي الموعظة و (إن) إما بمعنى (إذ) كقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٣٩] ، أو بمعنى (قد) على ما قاله ابن خالويه. ويؤيده قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥] ، وقيل : (إن) شرطية. والمعنى ذم المذكّرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم ، تسجيلا بالطبع على قلوبهم كما تقول للواعظ : (عظ المكّاسين إن سمعوا منك) قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون (سَيَذَّكَّرُ) أي يقبل التذكرة وينتفع بها (مَنْ يَخْشى) أي يخاف العقاب على الجحود والعناد ، بعد ظهور الدليل (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي العظمى ألما وعذابا (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي لا يهلك فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه. قيل : إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة قالوا : (لا هو حي ولا ميت) فجاء على مألوفهم في كلامهم. و (ثم) هنا للتفاوت الرتبيّ ، إشارة إلى أن خلوده أفظع من دخوله النار ، وصليه.