الوهاج. فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت. بل قد يتضررون به بعض الأوقات. وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في ك ل وقت ، وكل مكان ، ليلا ونهارا ، سرّا وعلانية. وقد قال صلىاللهعليهوسلم (١) : زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها. وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها. وهذه الأماكن الثلاثة ، أقسم الله بها في القرآن في قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) فأقسم بالتين والزيتون ، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل. وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى وناداه فيه ، من واديه الأيمن ، في البقعة المباركة من الشجرة ـ وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل ، وأمه هاجر فيه. وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حوله. وجعله آمنا خلقا وأمرا ، قدرا وشرعا.
ثم قال (ابن تيمية) : فقوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه ، وأنزل فيها كتبه الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن. كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران.
ولما كان ما في التوراة خبرا عنها ، أخبر بها على ترتيبها الزماني ، فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن ، فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها. وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله. فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة. فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولا بالتين والزيتون. ثم بطور سينين ، ثم بمكة. لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل. وكذلك الأنبياء. فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات : ١ ـ ٤] ، فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة. فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ، ثم بالجاريات يسرا ، وقد قيل إنها السفن ، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [التكوير : ١٥ ـ ١٦] ، فسماها جواري كما سمى الفلك جواري في قوله : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الشورى : ٣٢] ، والكواكب فوق السحاب ثم قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات : ٤] ، وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.
__________________
(١) أخرجه مسلم في : الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم ١٩. عن ثوبان.