الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ... أى : أن من صفات هؤلاء الجاحدين ، أنهم إذا ركبوا السفن ، وجرت بهم بريح طيبة وفرحوا بها ، ثم جاءتهم بعد ذلك ريح عاصف ، وظنوا أن الغرق قد اقترب منهم ، تضرعوا إلى الله ـ تعالى ـ مخلصين له العبادة والدعاء.
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) بفضله وكرمه ، وأنقذهم من الغرق المحقق (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) مع الله ـ تعالى ـ غيره في العبادة والطاعة.
وقد فعلوا ذلك : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعم ، وبما منحناهم من فضل ورحمة.
(وَلِيَتَمَتَّعُوا) بمتع هذه الحياة وزينتها إلى حين (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عما قريب عاقبة هذا الكفران لنعم الله ، وهذا التمتع بزينة الحياة الدنيا دون أن يعملوا شيئا ينفعهم في أخراهم.
قال الآلوسى : قوله : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) : الظاهر أن اللام في الموضعين لام كي ، أى : يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم ، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام. فالشرك سبب لهذا الكفران. وأدخلت لام كي على مسببه ، لجعله كالغرض لهم منه ، فهي لام العاقبة في الحقيقة.
وقيل : اللام فيهما لام الأمر ، والأمر بالكفران والتمتع ، مجاز في التخلية والخذلان والتهديد ، كما تقول عند الغضب على من يخالفك : «افعل ما شئت» (١).
ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بنعمة الحرم الآمن ، الذي يعيشون في جواره مطمئنين ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).
أى : أجهل هؤلاء قيمة النعمة التي هم فيها ، ولم يدركوا ويشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرما آمنا ، يأمنون فيه على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم ، والحال أن الناس من حولهم يقتل بعضهم بعضا ، ويعتدى بعضهم على بعض بسرعة وشدة. والتخطف : الأخذ بسرعة.
قال صاحب الكشاف : كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا ، ويتغاورون ، ويتناهبون ، وأهل مكة قارون فيها آمنون لا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب ، فذكرهم الله بهذه النعمة الخاصة بهم» (٢).
والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) للتعجب من حالهم ، وللتوبيخ لهم على هذا الجحود والكفر لنعم الله ـ تعالى ـ. أى : أفبعد هذه النعمة
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٣.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٦٤.