وقال ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) .. للإشعار بان هناك عددا قليلا من الناس ـ بالنسبة لهؤلاء الكثيرين ـ قد آمنوا بلقاء ربهم ، واستعدوا لهذا اللقاء عن طريق العمل الصالح الذي يرضى خالقهم ـ عزوجل ـ.
ثم قرعهم ـ سبحانه ـ للمرة الثانية على عدم اتعاظهم بأحوال السابقين من الأمم قبلهم ، فقال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ...
أى : أقعد مشركو مكة في ديارهم ، ولم يسيروا في الأرض سير المتأملين المتفكرين المعتبرين فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، من الأمم الماضية ، كقوم عاد وثمود ، وقوم لوط.
وقوله ـ سبحانه ـ : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) بيان لحال هؤلاء الأقوام السابقين (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أى : كان أولئك السابقون أقوى من أهل مكة في كل مجال من مجالات القوة ، وكانوا أقدر منهم على حراثة الأرض ، وتهيئتها للزراعة ، واستخراج خيراتها من باطنها.
(وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أى : حرثوا الأرض وشقوا عن باطنها ، وعمروها عمارة أكثر من عمارة أهل مكة لها ، لأن أولئك الأقوام السابقين كانوا أقوى من كفار مكة ، وكانوا أكثر دراية بعمارة الأرض.
وهؤلاء الأقوام السابقون : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى : بالمعجزات الواضحات ، وبالحجج الساطعات ، ولكن هؤلاء الأقوام كذبوا رسلهم ، فأهلكهم الله ـ تعالى ـ (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أى : فما كان الله ـ تعالى ـ من شأنه أن يعذبهم بدون ذنب.
(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث ارتكبوا من الكفر والمعاصي ما كان سببا في هلاكهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ المصير السيئ ، الذي حل بهؤلاء الكافرين فقال : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى).
ولفظ «عاقبة» قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ـ بفتح التاء ـ على أنه خبر «كان» قدم على اسمها ، وهو لفظ «السوأى» الذي هو تأنيث الأسوأ ، كالحسنى تأنيث الأحسن. وجرد الفعل «كان» من التاء مع أن السوأى مؤنث ، لأن التأنيث غير حقيقى.
فيكون المعنى : ثم كانت العقوبة السيئة وهي العذاب في جهنم ، عاقبة الذين عملوا في دنياهم الأعمال السيئات.