وزاد آخر أنّ العمل على الحالة السابقة أمر مركوز في النفوس حتّى الحيوانات ؛ إلّا ترى أنّ الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عهدت فيها الماء والكلأ ، والطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها ، ولو لا البناء على «إبقاء ما كان على ما كان» لم يكن وجه لذلك.
والجواب : أنّ بناء العقلاء إنّما يسلّم في موضع يحصل لهم الظنّ بالبقاء لأجل الغلبة ، فإنّهم في امورهم عاملون بالغلبة ، سواء وافقت الحالة السابقة أو خالفتها ؛ إلّا ترى أنّهم لا يكاتبون من عهدوه في حال لا يغلب فيه السلامة ، فضلا عن المهالك ـ إلّا على سبيل الاحتياط لاحتمال الحياة ـ ولا يرسلون إليه البضائع للتجارة ، ولا يجعلونه وصيّا في الأموال أو قيّما على الأطفال ، ولا يقلّدونه في هذا الحال إذا كان من أهل الاستدلال ، وتراهم لو شكّوا في نسخ الحكم الشرعيّ يبنون على عدمه (*) ، ولو شكّوا في رافعيّة المذي شرعا للطهارة فلا يبنون على عدمها.
وبالجملة ، فالذي أظنّ أنّهم غير بانين في الشكّ في الحكم الشرعيّ من غير جهة النسخ على الاستصحاب.
نعم ، الإنصاف : أنّهم لو شكّوا في بقاء حكم شرعيّ فليس عندهم كالشكّ في حدوثه في البناء على العدم ، ولعلّ هذا من جهة عدم وجدان الدليل بعد الفحص ؛ فإنّها أمارة على العدم ؛ لما علم من بناء الشارع على التبليغ ، فظنّ عدم الورود يستلزم الظنّ بعدم الوجود. والكلام في اعتبار هذا الظنّ بمجرّده ـ من غير ضمّ حكم العقل بقبح التعبّد بما لا يعلم ـ في باب أصل البراءة.
______________________________________________________
كانت هو الاستصحاب أم غيره ، وهو خلاف المعاين من طريقتهم ، ولذا ترى أنّ أحدا إذا فارق صديقه أو أباه في بلد ثمّ جاء إلى بلد آخر ، أرسل إليه المكاتب والودائع استصحابا لبقائه فيه وعدم انتقاله عنه ، ولا يرسلهما إلى بلد آخر بمجرّد ظنّ انتقاله من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر ، ومنع ذلك مكابرة.
__________________
(*) في بعض النسخ : بدل «عدمه» ، البقاء.