يكونا عزيزين في الناس اذا انتبهوا الى أن البقاء في الدنيا لا يكون إلاّ أياما قلائل ، لأن الانسان اذا عرف أن الشدّة لا تدوم وطّن نفسه على السخاء والصبر على تلك المكاره.
ثمّ أنه عليهالسلام رغّب في الزهد من طريق نفعه العاجل ، وهو أحسن ذريعة للرغبة في الشيء ، لأن المرء يريد أبدا أن يكون لعمله نتيجة عاجلة ، فقال : ومن زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه ، وانطلق بها لسانه ، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه الله سالما الى دار السّلام (١).
نعم يجب أن نعرف الزهد وحقيقته ، لئلاّ نخبط في التلبّس به خبط عشواء ، فقد سأله بعض العارفين من أصحابه عن حدّ الزهد في الدنيا ، فقال عليهالسلام : فقد حدّه الله في كتابه ، فقال عزّ من قائل : « لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم » (٢) ثمّ قال : إن أعلم الناس أخوفهم لله ، وأخوفهم له أعلمهم به ، وأعلمهم به أزهدهم فيها (٣).
أقول : إن تحديده للزهد بما في الآية الكريمة يفهمنا أن الزهد في الدنيا ليس كما يتبادر الى بعض الأفهام من الجشوبة في العيش والخشونة في الملبس ، وإن كانتا من آثاره أحيانا ، وإنّما هو أعلى وأرفع من ذلك.
إن المرء اذا كان معرضا عن الدنيا هانت عليه فلا يحزن بما فات ، ولا يفرح بما هو آت ، ولو كان مقبلا عليها لأحزنه الفائت وأسرّه الآتي ، فأحسن كاشف عن حقيقة الزهد في الدنيا هذا الحزن والفرح.
ولو كان الزهد الصفح عن نعيم هذا الوجود وما فيه من ملذّات كما
__________________
(١) الكافي ، باب ذمّ الدنيا والزهد فيها : ٢ / ١٢٨ / ١.
(٢) الحديد : ٢٣.
(٣) بحار الأنوار : ٧٨ / ١٩٣ / ٧.