الحرب كما كانت ، فاختلط الناس وأجنّهم الليل ، وكان الفارس يعتنق الفارس فيقعان إلى الأرض جميعا ، وكانت ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير ، وأصبح القوم على قتالهم ، فكشفت الشمس وارتفع القتام وتقطّعت الألوية ولم يعرفوا أوقات الصلاة ، فقال معاوية لعمرو بن العاص : هلمّ مخبآتك يا بن العاص؟ فقال له عمرو : تأمر الناس من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه. ففعل ذلك ، وارتفعت الضجّة : من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ من للروم؟ من للترك؟ من لجهاد الكفرة؟ وفي ذلك قال النجاشي :
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا |
|
عليها كتاب الله خير قرآن |
ونادوا عليّا يا ابن عمّ محمّدا |
|
أما تتّقي أن يهلك الثقلان |
فلمّا رأى أهل العراق ذلك أحبّوا الموادعة ، وقال كثير من أصحاب عليّ عليهالسلام : قد أعطاك معاوية الحقّ ودعاك إلى كتاب الله عزّ وجلّ فاقبله منه. وكان أشدّهم في ذلك الأحنف بن قيس (١). فقال عليّ عليهالسلام : أيّها الناس إنّه لم يزل لي من أمركم ما احبّ حتى قدحتم (٢) الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وإنّي كنت بالأمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا ، وقد أحببتم البقاء.
فقال الأشتر : إنّ معاوية لا خلف له من رجاله ، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرك ، فاقرع الحديد بالحديد واستعن بالله. وقال الأشعث بن قيس : إنّا لك اليوم على ما كنّا لك أمس ، وليس ندري ما يكون غدا ، وقد والله كلّ الحديد وقلّ الناصر.
فقال عليّ عليهالسلام : ويحكم ما رفعوها إلاّ خدعة. فقال الأشعث : إن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. فقال له : افعل. فسأله ، فقال : نرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله تعالى به في كتابه ، تبعثون رجلا تختارونه وترضون به ونبعث رجلا ، ونأخذ عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في الكتاب ولا يخرجا عنه ، وننقاد جميعا إلى ما اتّفقا عليه من حكم الكتاب. فصوّب الأشعث رأيه ، وانصرف إلى عليّ عليهالسلام فأخبره
__________________
(١) كذا ، والظاهر : الأشعث بن قيس.
(٢) في مروج الذهب : قرحتكم الحرب ج ٢ ص ٣٩٠.