وأمّا الغنى : فهو مذموم إذا أورث الحرص على الدنيا والغفلة عن الله تعالى ، وعن القيام بالوظائف والطاعات المندوبة أو الواجبة ، بل والوقوع في المعاصي والانهماك فيها كما هو الغالب في هذه الطائفة ونعوذ بالله منها.
ولو فرض أنّ صاحب الغنى قد واظب في عين تلك الحالة على ما أراد الشرع منه وأدّى حقوق أمواله الواجبة والمندوبة ، بل وحصل له توفيق صرف المال في سبيل ربّه وإحياء دينه والخدمة لأهل ملّته بما لا يمكن ذلك للفقير فلا إشكال في عدم شمول الذموم الواردة في الغنى له.
وبالجملة : كم من غنيّ لم يشغله غناه عن الله ، وكم من فقير شغله فقره عن الله. فإطلاقات المدح والذم في الوصفين محمولة على الغالب ، إذاً ، فالحسن عارض للفقر ، لملازمته أو مقارنته لما هو حسن عقلاً أو شرعاً ، والقبح عارض للغنى لتقارنه لما هو مبغوض كذلك. وقال المجلسيّ قدسسره : ( مقتضى الجمع بين أخبارنا : أنّ الفقر والغنى كلّ منهما نعمة من نعم الله يعطيها من يشاء من عباده لمصالح ، وعلى العبد أن يصبر على الفقر ، بل ويشكره ويشكر الغنى ويعمل بمقتضاه ، فمع عمل كلّ منهما بمقتضى حاله ، فالغالب أنّ الفقير الصابر أكثر ثواباً من الغنيّ الشاكر ، لكن مراتبهما مختلفة ، والظاهر أنّ الكفاف أسلم وأقلّ خطراً من الجانبين ).
والأولى ذكر أدلّة الباب حتّى يّتضح حقيقة الحال ، فإنّ الحقّ الحقيق بالاتّباع هو المستفاد من الكتاب والسنّة.
فقد ورد في الكتاب الكريم قوله : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ). (١) فقد ورد : أنّ نزولها كان في
____________________________
١) الكهف : ٢٨.