وكيف كان ، فالأقوى وفاقا لبعض مشايخنا العظام (١) هو القول الثاني ، وعليه الفاضل النراقي في مناهجه ، وإن كان القول الثالث هو المشهور المدّعى عليه الإجماع على حدّ الاستفاضة ، ومن جملة ذلك ما عن العضدي من أنّا نقطع إنّ العلماء في الأعصار والأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد ، كنقلهم عن الأصمعي والخليل وأبي عبيدة وسيبويه.
وما عن المدقّق الشيرواني من أنّ المعنى اللغوي خرج عن قاعدة اعتبار القطع في الاصول بالإجماع ، حيث لم يزل العلماء في كلّ عصر يعوّلون على نقل الآحاد في اللغة ، كالخليل والإصمعي ولم ينكر ذلك أحد عليهم من العصر السابق واللاحق ، فصار ذلك إجماعا.
وهذا الخلاف كما ترى وإن انعقد في قول اللغوي أو الظنّ الحاصل منه ، غير أنّ الأولى أن يؤخذ العنوان على الوجه الأعمّ بالبحث عن حجيّة مطلق الظنون المتعلّقة باللغات ، وإن حصلت من غير جهة قول اللغوي ، كما صنعه بعض المشايخ وقبله بعض الأعاظم ليعمّ فائدته سائر الطرق والأمارات ممّا لم يثبت فيه الملازمة إلاّ بطريق ظنّي ، أو لم يكن الملزوم محرزا إلاّ بطريق ظنّي ، كالتبادر الظنّي ونحوه مثلا ، ومعلوم أنّ المانع هنا في فسحة عن تجشّم الاستدلال ، لكونه مستظهرا فلا يطالب بالدليل ، بل التشبّث بالدليل من وظيفة مدّعي الحجيّة ، لوضوح أنّ دعوى كون قول اللغوي أو الظنّ الحاصل منه أو مطلق الظنّ في اللغات ما نزّله العرف أو الشرع منزلة الواقع وإن لم يصادفه بحسب الواقع ، بنفسها وبأعلى صوتها تنادي بلزوم مطالبة الدليل من مدّعيها ، ومع ذلك فللمانع أن يستند لمنعه إلى أصل كلّي مقطوع به مقتضى لعدم الحجّية إلاّ ما أثبته الدليل بخصوصه ، على كلا الاعتبارين من اعتبار الحجيّة بحسب العرف واعتبارها بحسب الشرع.
أمّا الأوّل : فلأصالة التوقيف في اللغات بالنسبة إلى جميع الجهات الراجعة إليها ، من أوضاعها ومجازاتها وقرائنها وكيفيّة استعمالاتها.
__________________
(١) هو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله.