القلقة المعذّبة ، فقد كان يشعر بالإثم لسكوته عن الحكم الأموي ، وقد كان يشعر بالإثم ؛ لقعوده عن محاولة تطهير المجتمع من المنكرات التي يراها ، وقد كان هذا الشعور بالإثم كفيلاً بأن يدفعه في النهاية إلى التغلّب على الخوف في نفسه وإلى تحطيم النطاق القبلي الذي يغلّه.
ولكن هذا الركن الثالث من أركان السياسة الاُمويّة ـ أعني التضليل الديني ـ تكفّل بإيجاد تبرير ديني للوضع الاجتماعي الشاذّ الذي كان عليه المجتمع الإسلامي ، واُريد منه حمل الجماهير المسلمة على السكوت عن النقد ، والقعود عن محاولة تغيير الوضع إلى مستوى أحسن ، وبذلك يختفي الشعور بالإثم من الضمير الجماهيري ، هذا الشعور الذي يدفع إلى الثورة حين يبلغ درجة ضغط عالية ، وعندما يضمحلّ الشعور بالإثم يستقر المجتمع نهائياً ، فهناك عامل نفسي وديني يدفعه إلى الخضوع ، وهناك عامل اجتماعي يجعله حتميّاً ، وحينئذ يطمئن الحاكمون إلى أنّ تصرّفاتهم لن تثير أيّ استنكار لدى الجماهير.
كان هذا هو الوضع النفسي لهؤلاء الذين أخذوا بأساليب الاُمويِّين في التحذير الديني ، وأمّا اُولئك الذين لم يُؤخذوا بهذا اللون من الدعاية ، ولم تنطلِ عليهم أحابيل الاُمويِّين وأكاذيبهم فقد كان لهم وضع آخر لا يقلّ إثارة للأسى عن هذا الوضع.
لقد صار الأمر بهؤلاء الآخرين إلى ازدواج الشخصيّة ؛ فقد عملت سياسة معاوية المالية ، وأسلوبه الوحشي في التنكيل بأعدائه العزّل من السلاح ، وتعليم الناس على الدجل والنفاق ، والسكوت عن الحقّ ، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصّلاً إلى دنيا معاوية ، وتمسّكاً بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروّ أو تفكير. وهذا الوضع الشاذّ ـ الوضع الذي يفرض عليهم أن يخفوا دوماً ما يعتقدونه حقّاً واقعاً ، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم ـ ولّد عندهم ازدواج الشخصيّة ، هذا