يعلم ذلك كلّه ثمّ يختار هذا اللون الرهيب من الموت على هذا اللون الرغيد من الحياة.
لقد كان غريباً جدّاً على هؤلاء يروا إنساناً كهذا ... لقد اعتادوا على زعماء يمرّغون بجباههم في التراب خوفاً من مصير أهون من هذا بكثير أمثال عمر بن سعد ، والأشعث بن قيس ونظائرهما. تعوّدوا على هؤلاء فكان غريباً عليهم أن يُشاهدوا هذا النموذج العملاق من الإنسان ، هذا النموذج الذي تعالى ويتعالى حتّى ليكاد القائل أن يقول : ما هذا بشر ...
ولقد هزّ هذا اللون من الأخلاق ... هذا اللون من السلوك الضّمير المسلم هزّاً مُتداركاً ، وأيقظه من سُباته المَرضي الطويل ؛ ليُشاهد صفحة جديدة مشرقة يكتبها الإنسان بدمه في سبيل الشّرف والمبدأ ، والحياة العارية من الذلّ والعبودية. ولقد كشف له عن زيف الحياة التي يحياها ، وعن زيف الزّعماء ـ أصناف اللّحم ـ الذين يعبدهم ، وشق له طريقاً جديداً في العمل ، وقدّم له أسلوباً جديداً في ممارسة الحياة ، فيه قسوة ، وفيه حرمان ، ولكنّه طريق مضيء لا طريق غيره جدير بالإنسان.
ولقد غدا هذا اللون المشرق من الأخلاق ، وهذا النموذج الباهر من السلوك خطراً رهيباً على حاكم يُجافي روح الإسلام في حكمه. إنّ ضمائر الزعماء قليلاً ما تتأثّر بهذه المُثل المُضيئة ، ولكنّ الذي يتأثّر هي الأمّة ، وهذا هو ما كان يريده الحسين عليهالسلام : لقد كان يريد شقّ الطريق للأمّة المُستعبدة لتُناضل عن إنسانيتها.
وفي جميع مراحل الثورة ، مُنذ بدايتها في المدينة حتّى ختامها الدّامي في كربلاء نلمح التصميم على هذا النمط العالي من السلوك.
ها هو الحسين عليهالسلام يقول لأخيه محمد بن الحنفيّة (١) ، وهما بعد في المدينة ،