ولا بدّ أنّه قد عهد بإذاعة أفكاره الخاصّة حول هاتين العقيدتين ـ الجبر والإرجاء ـ بين المسلمين إلى ولاته وأجهزة الدعاية عنده ، ومنها القصّاص ، قال الليث بن سعد :
«وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي أوجده معاوية ، ولّى رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عزّ وجلّ ، وحمده ومجّده ، وصلى على النبي صلىاللهعليهوآله ، ودعا للخليفة ولأهل بيته ، وحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه ، وعلى المشركين كافّة» (١).
وأمر رجلاً يقصّ بعد الصبح ، وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام (٢) ، ولا بدّ أنّ هذا الدعاء كان استهلالاً يبتدئ به القاصّ ، ثمّ يأخذ بعده في قصصه.
ومثل معاوية لا يجعل الفوائد الجليلة التي يمكن أن تُقدّمها له عقيدة الجبر ، فهو ـ وسائر الاُمويِّين ـ كانوا يعلمون أنّ أُسرتهم غير مُحتلمة من المسلمين ، ويعلمون أنّهم في نظر كثير من رعاياهم مُختلسون. وصلوا إلى السلطة بوسائل قهريّة شديدة ، وأنّهم أعداء لآل النبي صلىاللهعليهوآله ، وقتلة لأشخاص مُقدّسين لا ذنب لهم ، وإن كان ثمّة عقيدة تمسك الناس عن أن يثوروا عليهم وعلى ولاتهم لكانت عقيدة الجبر ، هذه العقيدة التي توحي إلى الناس بأنّ الله قد حكم منذ الأزل أن تصل هذه الأسرة إلى الحكم ، فأعمالهم وتصرّفاتهم ليست إلاّ نتيجة لقدر إلهي محكم ، من أجل ذلك كان حسناً جدّاً لهم ولدولتهم أن تتأصّل هذه الأفكار في أذهان الاُمّة (٣).
__________________
(١) فجر الإسلام : ١٥٩.
(٢) المصدر السابق : ١٦٠.
(٣) يقول الدكتور أحمد أمين : ضحي الإسلام ٣ / ٨١ «... وبنو اُميّة ـ كما يظهر ـ كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة ، لا دينياً فقط ، ولكن سياسياً كذلك ؛ لأنّ الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أنّ الله الذي يُسيّر الاُمور قد فرض على الناس بني اُميّة كما فرض كلّ شيء ، ودولتهم بقضاء الله وقدره ، فيجب الخضوع للقضاء والقدر».