الأولى ، وإنما كانت دينية ، كانت هجرة نبي يريد أن يبشر بدعوة التوحيد في مكان غير هذه الأرض التي لم تتقبل دعوته بقبول حسن.
ويقص علينا القرآن الكريم ـ في آيات كريمة من سورة مريم (١) ـ كيف بدأ إبراهيم دعوته مع أبيه يهديه بها صراطا مستقيما ـ كما أشرنا من قبل ـ وكيف أن أباه قد رفض الدعوة ، وهدده إن لم ينته عنها ليرجمنه وليهجرنه مليا ، فما كان من الخليل تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ، إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وإلا أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.
غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم بين الخليل وقومه ، حين بذل أبو الأنبياء الجهد ـ كل الجهد ـ لصرفهم عن عبادة الأوثان ، والإتجاه إلى عبادة الله الواحد القهار ، إلا أن القوم ظلوا في طغيانهم يعمهون ، مما دفع الخليل إلى أن يجرب معهم وسائل حسية ، ومن ثم فقد حطم الأصنام وترك كبيرهم ، لعل القوم يفكرون في الموقف الجديد ، أملا في أن يهديهم الله سواء السبيل ، فيعرفوا أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ، ولا تمنع عنها ضرا ، فضلا عن أن يكون ذلك للقوم أنفسهم ، إلا أن هذه العقول المتحجرة ، لم تزد على أن تلجأ إلى العنف لنصرة أصنامها ، ولم تجد لها مخرجا من الموقف الجديد ، إلا أن تلقي بإبراهيم في نار ، ظنوا أنها ستكون القاضية على الخليل ، وأنها الحل السعيد لمشكلتهم ، مع هذا الذي سفه عقولهم وحطم أصنامهم ، دون أن يفكروا مرة في مقابلة الحجة بالحجة ، ودون أن يرجعوا إلى الحق ، ما دام الحق مع إبراهيم ، وتلك ـ ويم الله ـ عادة من طمس الله على قلوبهم في كل زمان ومكان ، لا يعرفون إلا القوة الطاغية ضد العقول المستنيرة ، التي تبغي لهم الخير والفلاح.
__________________
(١) سورة مريم : آية ٤١ ـ ٤٨