وقد عملت قريش على توفير الأمن في منطقة مكة ، وهو أمر ضروري في بيئة تغلي بالغارات وطلب الثأر ، حتى يكون البيت الحرام ملاذا للناس وأمنا ، وحتى يجد فيها من تضيق به الحياة ويتعرض لطلب الثأر ، الأمن والحماية ، ولعل هذا هو السبب في أن تحافظ قريش على حرمة الأشهر الحرم في موسم الحج ، حتى يأمن الناس فيه على أنفسهم وأموالهم.
ولم تكتف قريش بذلك ، وإنما عملت على توفير الماء والطعام للحجيج في منطقة يشح فيها الماء ، ويقل الطعام ، ومن ثم فقد قامت بحفر الآبار في منطقة مكة وأنشأت أماكن للسقاية ، ثم أوكلت سقاية الحاج إلى البطون القوية (١) ، وهكذا غدت سقاية الحج ـ بجانب عمارة البيت وسدانته ـ عملا يراه القوم في قمة مفاخرهم ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ» (٢).
وكانت ضيافة الحجيج عملا لا يقل عن سقايتهم ، وقد أسندتها قريش إلى الأغنياء من رجالاتها ، لأن قدوم الحجاج من أماكن بعيدة من شبه الجزيرة العربية ، يصعب معه حمل الزاد ، ومن ثم فقد كانت الرفادة تكلف أصحابها الكثير من أموالهم ، بجانب ما تقدمه قريش لهم ، إلا أن هذا الأمر في الوقت ذاته ، قد أفاد قريشا كثيرا ، إذ كانت المؤاكلة في عرف العرب ، إنما هي عقد جوار وحلف ، فضلا عن أن الضيافة في ذاتها من أكبر ما يحمد الرجل عليه ، وهكذا كانت قريش بعملها هذا ، وكأنها تعقد حلفا مع كل القبائل العربية ، تحمي به تجارتها ، وتسبغ على رجالاتها نوعا
__________________
(١) ابن هشام ١ / ١٥٩ ـ ١٦٢
(٢) سورة التوبة : آية ١٩ ، وانظر : تفسير الطبري ١٤ / ١٦٨ ـ ١٧٣ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور ٣ / ٢١٨ ، تفسير القرطبي ٨ / ٩١ ـ ٩٢ ، تفسير المنار ١٠ / ٢١٥ ـ ٢٢٠.