يا أحمد ، إن أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم ، كثير حياؤهم ، قليل حمقهم ، كثير نفعهم ، قليل مكرهم ، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب ، كلامهم موزون ، محاسبين لأنفسهم مُتعِبين لها ، تَنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، أعينهم باكية ، وقلوبهم ذاكرة ، إذا كُتِب الناس من الغافلين كُتِبوا من الذاكرين ، في أول النعمة يَحمدون ، وفي آخرها يَشكرون. دعاؤهم عند الله مرفوع ، وكلامهم مسموع ، تَفرح الملائكة بهم ، يدور دعاؤهم تحت الحجب ، يحبُّ الرب أن يسمع كلامهم كما تحبُّ الوالدة ولدها ، ولا يشغلهم عن الله شيء طرفة عين ، ولا يريدون كثرة الطعام ولا كثرة الكلام ولا كثرة اللباس ، الناس عندهم موتى ، والله عندهم حيُّ قيوم كريم.
يدعون المدبرين كرماً ويريدون المقبلين تلطُّفاً ، قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة ، يمومت الناس مرة ويموت أحدهم في كلِّ يوم سبعين مرة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم والشيطان الذي يجري في عروقهم ، ولو تحرَّكت ريح لزعزعتهم ، وإن قاموا بين يديَّ كأنهم بنيان مرصوص ؛ لا أرى في قلبهم شغلاً لمخلوق.
فوَعزتي وجلالي ، لأُحيينَّهم حياة طيبة إذا فارقت أرواحهم من جسدهم ، لا أُسلِّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ، ولأُفتِحنَّ لروحهم أبواب السماء كلها ، ولأرفعنَّ الحجب كلها دوني ، ولآمرنَّ الجنان فلتزيننَّ ، والحور العين فلتزفنَّ ، والملائكة فلتصلِّينَّ ، والأشجار فلتثمرنَّ ، وثمار الجنة فلتدلينَّ. ولآمرنَّ ريحاً من الرياح التي تحت العرش ، فلتحملنَّ جبال من الكافور والمسك الأذفر. فلتصيرنَّ وقوداً من غير النار فلتدخلنَّ به.
ولا يكون بيني وبين روحه ستر ، فأقول له عند قبض روحه : مرحباً وأهلاً بقدومك عليَّ ، إصعَد بالكرامة والبُشرى والرحمة والرضوان ، وجنّات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبداً ، إن الله عنده أجر عظيم. فلو رأيت الملائكة كيف يأخذ بها واحد ويعطيها الآخر.
يا أحمد ، إن أهل الآخرة لا يهنؤهم الطعام منذ عرفوا ربهم ، ولا يشغلهم مصيبة منذ عرفوا سيئاتهم. يبكون على خطاياهم ، يتعبون أنفسهم ولا يريحونها ، وأن راحة أهل