الجنة في الموت ، والآخرة مستراح العابدين. مونسهم دموعهم التي تفيض على خدودهم ، وجلوسهم مع الملائكة الذين عن أيمانهم وعن شمائلهم ، ومناجاتهم مع الجليل الذي فوق عرشه.
وأن أهل الآخرة قلوبهم في أجوافهم قد قرحَت ، يقولون متى نَستريح من دار الفناء إلى دار البقاء.
يا أحمد ، هل تعرف ما للزاهدين عندي في الآخرة؟
قال : لا يا رب.
قال : يُبعَث الخلق ويُناقَشون بالحساب وهم من ذلك آمنون. إن أدنى ما أُعطي للزاهدين في الآخرة أن أُعطيهم مفاتيح الجنان كلَّها حتى يفتحوا أيَّ باب شاؤوا ، ولا أحجب عنهم وجهي ، ولأنعمنَّهم بألوان التلذُّذ من كلامي ، ولأُجلسنَّهم في مقعد صدق ، وأذكرنَّهم ما صنعوا وتعبوا في دار الدنيا. وأفتح لهم أربعة أبواب : باب تدخل عليهم الهداي منه بكرة وعشيّاً من عندي ، وباب ينظرون منه إليَّ كيف شاؤوا بلا صعوبة ، وباب يطلعون منه إلى النار فينظرون منه إلى الظالمين كيف يُعذِّبون ، وباب تدخل عليهم منه الوصائف والحور العين.
قال : يا رب ، من هؤلاء الزاهدون الذين وصفتَهم؟
قال : الزاهد هو الذي ليس له بين يخرب فيغتمُّ بخرابه ، ولا له ولد يموت فيحزن لموته ، ولا له شيء يذهب فيحزن لذهابه ، ولا يعرفه إنسان يشغله عن الله طرفة عين ، ولا له فضل طعام ليُسأل عنه ، ولا له ثوب لين.
يا أحمد ، وجوه الزاهدين مُصفَرَّة من تعب الليل وصوم النهار ، وألسنتهم كلا إلا من ذكر الله تعالى. قلوبهم في صدورهم مطعونة من كثرة ما يخالفون أهواءهم. قد ضمَّروا أنفسهم ١ من كثرة صمتهم. قد أعطوا المجهود من أنفسهم لا من خوف نار ولا من شوق جنة ، ولكن ينظرون في ملكوت السماوات والأرض فيعلمون أن الله سبحانه وتعالى
__________________
١. من «الضَمَر» بمعنى الهزال وقلة اللحم.