أمّا سبب الداخل فإنّه ركّبه من الرطوبة والحرارة وجعل بين الرطوبة والحراة عداوة ومضادّه فلا تزال الحراة تحلل الرطوبة وتجفّفها وتبخرها حتّى يتفشّى أجزاؤها بخارا يتصاعد منها ، فلو لم يتّصل بالرطوبة مدد من الغذاء يجر ما انحلّ وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان ، وخلق للحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء كالموكّل به في جبر ما انكسر وسدّ ما انثلم ليكون حافظا له من الهلاك بهذه الأسباب.
وأمّا الأسباب الخارجة التي يتعرّض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها فافتقر إلى قوّة وحميّة تثور من باطنه فيدفع المهلكات عنه فخلق الله الغضب من النار وغرزه في الإنسان وعجنه بطينته فمهما قصد في غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثورانا يغلي به دم القلب وينتشرف العروق ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترفع النار ، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر ولذلك ينصبّ إلى الوجه فتحمرّ الوجه والعين والبشرة بصفائها تحكي ما ورائها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها ، وإنّما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه فإنّ صدر الغضب على من هو فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولّد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزنا ولذلك يصفرّ اللون ، وإن كان الغضب على نظير يشكّ القدرة عليه تولّد منه تردّد بين انقباض وانبساط فيحمرّ ويصفرّ ويضطرب.
وبالجملة فقوّة الغضب محلّها القلب ومعناها غليان دم القلب لطلب الانتقام وإنّما تتوجّه هذه القوّة عند ثوراتها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفّي والانتقام بعد وقوعها ، والانتقام قوّة هذه القوّة وشهوتها وفيه لذّتها ولا تسكن إلّا به ثمّ الناس في هذه القوّة على درجات ثلاث في أوّل الفطرة وبحسب ما يطرأ عليها من الأمور الخارجة من التفريط والإفراط والاعتدال.