عقبي حالهم (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة يونس ، الآية : ١٠] وقال تعالى بين أحوالهم قبل ذلك : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [سورة مريم ، الآية : ٦٧] إلى (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٧٢] فعلى هذا الذي بنينا الكلام عليه قدر الله نعمه على الجن والإنس في دنياهم ، وأخراهم ، ثم قال : يا أيها تكذبون وكل ما تتصرفون فيه من حياة وممات ونعمة ونقمة وتيسير وتعسير ، وتقريب وتبعيد آثار إحساني فيها ناطقة وأعلام آلائي فيها سنة واضحة وهذا بمن الله ظاهر.
ومنه قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] إلى (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] الخلق هو الاحداث على تقدير من غير احتذاء مثال ولذلك لا يجوز إطلاقه إلّا في صفة الله تعالى لأنه لا أحد جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء أمثال إلّا الله وإنما جمع السّماوات ، ووحّد الأرض لأنّ الأرضين لتشاكلها تشبه الجنس ، والواحد كالرّجل ، والماء الذي لا يجوز جمعه إلّا أن يراد الاختلاف ، وليس يجري السّماوات مجرى الجنس المتفق لأنه دبّر في كل سماء أمرها بالتّدبير الذي هو حقّها قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] يجوز أن يكون من الخلاف كالسّواد والبياض لأنّ أحدهما لا يسدّ مسد الآخر في الأحوال.
ويجوز أن يكون من الخلف لأنّ كل واحد منهما يخلف صاحبه على طريق المعاقبة والنّهار في اللغة يفيد الاتساع أيضا ، ويقال : انهرت العنق إذ أوسعته ، وذكر الله تعالى هذه الآيات مجموعة معظما شأنها ليصرف بكريم عطفه وحسن نظره أوهام المخاطبين بها إليها ، وإلى النظر في تراكيبها وابتداع خلقها مدرجا إلى الاستدلال بها على خالق لا يشبه الأشياء ولا يشبه من جهة أنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم الذي ليس بجسم ولا عرض ، إذ جميع ذلك محدث ولا بدّ له من محدث لاستحالة التسلسل ، فتقديم السماوات والأرضين في الذّكر لأنها المعظم في المشاهدات والأصل وما عداها تبع لها ، ولتكون الحواس إلى تمييزها أسرع ، والأذهان إلى تبحثها أميل ، والنّفوس في الكشف عن سرائرها أرغب ، والعقول عنها أفهم ، واختلاف اللّيل والنّهار يدلّ على عالم مدبر لأنه متقن في الصنع محكم في التدبّر قريب التحوّل بعيد التأخر ، فهو أبلغ أداء وأبين مأخذا ، وأفصح برهانا ، (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] لأنه فعل منعم عالم بما يكون قبل أن يكون هيأ الله لمنافع الناس ومن جرى مجراهم لكي يفكروا ، مع كثرة بلواهم بها ، ومع تعذر فعل مثلها عليهم منها وليعلموا بمواقع حاجاتهم وتيسر مرافقهم بها أنّ الله لهو الحكيم الرءوف المحدث لهم ، والمنشئ والمصرف والمسخر.
فأما الماء المنزل من السّماء ، فيدل على الرازق المنعم المبدع لما شاء لا يعجزه شيء