لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق. وقال (مِنَ الْعِلْمِ) على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك ، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعد ما نبىء ، إذ في لفظ (جاءَنِي) تجدد العلم ، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالالوهية والعبادة أقوال ثلاثة (فَاتَّبِعْنِي) على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام (يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصيا للرحمن ، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى ، فهو عدوّ لك ولأبيك آدم من قبل. وكان لفظ الرحمن هنا تنبيها على سعة رحمته ، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى ، وإعلاما بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة ، وإن كان مختارا لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلّا ما اختار لنفسه من عصيانهم.
(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ) قال الفرّاء والطبري (أَخافُ) أعلم كما قال (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) (١) أي تيقنا ، والأولى حمل (أَخافُ) على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيسا من إيمانه بل كان راجيا له وخائفا أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب ، وخوّفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدّب معه إذ لم يصرّح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف ، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب ، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٢) أي من النعيم السابق ذكره ، وصدر كل نصيحة بقوله (يا أَبَتِ) توسلا إليه واستعطافا.
وقيل : الولاية هنا كونه مقرونا معه في الآخرة وإن تباغضا وتبرأ بعضهما من بعض. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير إني أخاف أن تكون وليا في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن. وقوله (أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة ، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير مواليا للشيطان ، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سببا لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣) وهذه المناصحات
__________________
(١) سورة الكهف : ١٨ / ٨٠.
(٢) سورة التوبة : ٩ / ٧٢.
(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٨.