ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراء ، وإن ادعينا أنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعر ، وعلى جميع هذه التقديرات لا يثبت كونه معجزا.
ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) اقترحوا من الآيات ما لا إمهال بعدها كالآيات في قوله (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (١) قال الزمخشري : صحة التشبيه في قوله (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات ، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ، ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول أتى محمد بالمعجزة ، وأن تقول : أرسل محمد بالمعجزة انتهى. والكاف في (كَما أُرْسِلَ) يجوز أن يكون في موضع النعت لآية ، وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال الأولين ، ويجوز أن يكون في النعت لمصدر محذوف أي إتيانا مثل إرسال الأولين أي مثل إتيانهم بالآيات ، وهذه الآية التي طلبوها هي على سبيل اقتراحهم ، ولم يأت الله بآية مقترحة إلا أتى بالعذاب بعدها. وأراد تعالى تأخير هؤلاء وفي قولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) دلالة على معرفتهم بإتيان الرسل.
ثم أجاب تعالى عن قولهم (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) بقوله (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) والمراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما ، ومعنى (أَهْلَكْناها) حكمنا بإهلاكها بما اقترحوا من الآيات (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) استبعاد وإنكار أي هؤلاء أعني من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها ، فلما جاءتهم نكثوا فأهلكهم الله ، فلو أعطينا هؤلاء ما اقترحوا لكانوا أنكث من أولئك ، وكان يقع استئصالهم ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين.
ولما تقدم من قولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وأن الرسول لا يكون إلّا من عند الله من جنس البشر قال تعالى رادا عليهم (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) أي بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا ، ثم أحالهم على (أَهْلَ الذِّكْرِ) فإنهم وإن كانوا مشايعين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر. وقوله (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) من حيث إنّ قريشا لم يكن لها كتاب سابق ولا إثارة من علم. والظاهر أن (أَهْلَ الذِّكْرِ) هم أحبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر هذا مع موافقة قريش في ترك الإيمان بالرسول صلىاللهعليهوسلم ، فشهادتهم لا مطعن فيها. وقال عبد الله بن سلام : أنا من
__________________
(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٠.