والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق. وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) لإعراضهم عنه وليس المعنى (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) لأنهم لا يعلمون بل المعنى (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ولذلك (لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن (الْحَقَ) بالرفع. قال صاحب اللوامح : ابتداء والخبر مضمر ، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر. وقال ابن عطية : هذا القول هو (الْحَقَ) والوقف على هذه القراءة على (لا يَعْلَمُونَ).
وقال الزمخشري : وقرىء (الْحَقَ) بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب ، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى.
ولما ذكر انتفاء علمهم الحق وإعراضهم أخبر أنه ما أرسل (مِنْ رَسُولٍ) إلّا جاء مقررا لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة. ولما كان (مِنْ رَسُولٍ) عاما لفظا ومعنى ، أفرد على اللفظ في قوله إلّا يوحى إليه ثم جمع على المعنى في قوله (فَاعْبُدُونِ) ولم يأت التركيب فاعبدني ، ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته ، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوّات وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام. وقرأ الأخوان والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والقطعي وابن غزوان عن أيوب وخلف وابن سعدان وابن عيسى وابن جرير (نُوحِي) بالنون وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء ، واختلف عن عاصم.
ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد. قيل : ونزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزيز ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيرا والمسيح ، ويظهر من كلام الزمخشري أنه مخصوص بالملائكة قال : نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله نزه ذاته عن ذلك ، ثم أخبر عنهم بأنهم (عِبادٌ) والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم (مُكْرَمُونَ) مقربون عندي مفضلون على سائر العباد لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم ، فذلك هو الذي غرّ منهم من زعم أنهم أولادي تعاليت عن ذلك علوا كبيرا انتهى. وقرأ عكرمة (مُكْرَمُونَ) بالتشديد والجمهور بالتخفيف ، وقرأ (لا يَسْبِقُونَهُ) بكسر الباء. وقرىء بضمها من سابقني فسبقته أسبقه ، والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله : فلا يسبق قولهم قوله. وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري : والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم ، وذلك على مذهب البصريين.