بضع عشرة آية. وقال ابن عطية : وكرر هذه على وجه التوبيخ ، فكأنه يقول : هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان (وَمِنَ النَّاسِ) مع ذلك (مَنْ يُجادِلُ) فكان الواو واو الحال ، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها ، والآية على معنى الإخبار وهي هاهنا مكررة للتوبيخ انتهى. ولا يتخيل أن الواو في (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) واو حال ، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحا بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال ، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل (فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) متبع لشيطان مريد ، ومجادل (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) إلى آخره ، وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب المنير الوحي أي (يُجادِلُ) بغير واحد من هذه الثلاثة.
وانتصب (ثانِيَ عِطْفِهِ) على الحال من الضمير المستكن في (يُجادِلُ) قال ابن عباس : متكبرا ، ومجاهد : لاويا عنقه بقبح ، والضحاك : شامخا بأنفه وابن جريج : مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية (لِيُضِلَ) بفتح الياء أي (لِيُضِلَ) في نفسه والجمهور بضمها أي (لِيُضِلَ) غيره ، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب ، إذ عليه وزر من عمل به. ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له ، وكذلك لما كان معرضا عن الهدى مقبلا على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال.
والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة ، وقد أسر النضر. وقيل : يوم بدر بالصفراء. و (الْحَرِيقِ) قيل طبقة من طباق جهنم ، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع.
وقرأ زيد بن عليّ فأذيقه بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة ، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن الله هو الحق. وتقدم المراد في (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي باجترامك وبعدل الله فيك إذ عصيته ، ويحتمل أن يكون وأن الله مقتطعا ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن الله. قال ابن عطية : والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم ، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى. وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) وشرحنا هناك قوله (بِظَلَّامٍ).
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٣.