الأمر بالتقوى ، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته. وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء ، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة ، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله ، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق.
ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالا لقريش ، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقائل هو شاعر ، وقائل ساحر ، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (١). قال الكلبي (فِي غَمْرَتِهِمْ) في جهالتهم. وقال ابن بحر : في حيرتهم. وقال ابن سلام : في غفلتهم. وقيل : في ضلالتهم (حَتَّى حِينٍ) حتى ينزل بهم الموت. وقيل : حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب. وقيل : هو يوم بدر. وقيل : هي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور (فِي غَمْرَتِهِمْ) وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة ، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام. وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال الشاعر :
كأني ضارب في غمرة لعب
سلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى. ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم ، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.
وقرأ ابن وثاب إنما نمدهم بكسر الهمزة. وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء ، وما في (أَنَّما) إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها ، وخبر إن هي الجملة من قوله (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره : نسارع لهم به في الخيرات ، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس. وتقدم نظيره في قوله (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) وقال هشام بن معونة :
__________________
(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٣.