شاء أنظركم وأجلكم ، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ، ولهذا قال (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي وهو خير من فصل القضايا ، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده.
وقوله (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لو كان مرجع ذلك إلي ، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك ، والله أعلم بالظالمين.
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين ، من طريق ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أنها قالت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال : لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب (١) ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل عليهالسلام ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال وسلّم علي ، ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربك إليك ، لتأمرني بأمرك فيما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (٢) ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم ، من يعبد الله لا يشرك به شيئا» وهذا لفظ مسلم (٣) ، فقد عرض عليهم عذابهم واستئصالهم ، فاستأنى بهم ، وسأل لهم التأخير ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا ، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فالجواب والله أعلم ، أن هذه الآية دلت ، على أنه لو كان إليه وقوع العذاب ، الذي يطلبونه حال طلبهم له ، لأوقعه بهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا ، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم.
وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) قال البخاري (٤) : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله» (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي
__________________
(١) موضع يقال له أيضا قرن المنازل ، بينه وبين مكة يوم وليلة. وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.
(٢) الأخشبان هما جبلا مكة : أبو قبيس والجبل الذي يقابله.
(٣) صحيح مسلم (جهاد حديث ١١١) وصحيح البخاري (بدء الخلق باب ٧)
(٤) صحيح البخاري (تفسير سورة الأنعام باب ٢)