من الشيء إلا إذا لم يكن أهلا له ، يقال لهم : أقيلوني يدل على زهده وورعه ، وخوفه من الزلل في أمر الأمة ، يطلب الاستقالة لأجل ذلك ، ولأنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم «يلعن إماما أم قوما وهم له كارهون» (١) فخشى أبو بكر رضي اللّه عنه أن يكون فيمن ولى عليهم من هو كاره له ، فقال : أقيلوني أقيلوني ، فلما أجابوه بالقبول والاستبشار ، ولم ينكر عليه منكر خف عنه بعض ما توهم من كراهة كاره ، وهذا روى أنه رأى جبلا فقال للجبل : لو كان بك مثل ما بي لتقطعت. ولأن كل إنسان يطالب بأمر نفسه ، والإمام يطالب بأمر نفسه الأمة ، فطلب الاستقالة لأجل ذلك.
وقد روى في الخبر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : «من ولى على المسلمين رجلا وهو يعلم أن في المسلمين من هو خير منه ، فقد خان اللّه ورسوله» (٢) ، فلو كان في الصحابة من هو أفضل من أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه ، لما أجمعوا على خلافته ؛ لأن ذلك يؤدي إلى خيانة اللّه ورسوله ، والأمة لا تجتمع على ضلالة ، للخبر المروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في ذلك ، ومن الدليل على أن أبا بكر رضي اللّه عنه أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوله عليه الصلاة والسلام : «ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر رضي اللّه عنه» (٣). وهذا صريح كما ترى.
فإن قيل أخبرونا بما جرى بين عليّ ومعاوية رضي اللّه عنهما ، مع من كان منهما؟. يقال لهم : اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال : الحق كان مع علي لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم «عليّ على حق ، والحق معه حيث دار» (٤) ومنهم من قال : كل واحد منهما كان مجتهدا مصيبا ، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : «كل مجتهد مصيب» (٥) وأنهما لم يختلفا في الفروع كاختلاف الشافعي رضي اللّه عنه وأبي حنيفة والناس في ذلك على قولين : فمنهم من
__________________
(١) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (٣ / ١١) ـ ح (١٥١٨). وابن حبان في صحيحه (٥ / ٥٣) ـ ح (١٧٥٧). والترمذي (٢ / ١٩١) ـ ح (٣٥٨). والبيهقي في الكبرى (٣ / ١٢٨) ـ ح (٥١٢٢).
وأبو داود (١ / ١٦٢) ـ ح (٥٩٣). وابن ماجة (١ / ٣١١) ـ ح (٩٧٠).
(٢) أخرجه الحاكم في مستدركه (٤ / ١٠٤) ـ ح (٧٠٢٣) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(٣) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٣ / ٣٢٥).
(٤) أخرجه الطبراني في الكبير (٢٣ / ٣٢٩) ـ ح (٧٥٨) وانظر / الميزان للحافظ الذهبي (٦ / ٥٥٦) ـ الضعفاء للعقيلي (٤ / ١٦٥).
(٥) لم أجده.