بالإنكار عليهم غالطهم بعد في أن قسّم أمره إلى كذب وصدق ، وأبدى ذلك في صورة احتمال ونصيحة ، وبدأ في التقسيم بقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) مداراة منه ، وسلوكاً لطريق الإنصاف في القول ، وخوفاً إذا أنكر عليهم قتله أنّه ممّن يعاضده وينصره ، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتّى يسلم من شرّه ، ويكون ذلك أدنى إلى تسليمهم» (١).
وهذا الكلام متين ومنسجم مع سياق الآيات القرآنية الحاكية لأقوال هذا المؤمن لفرعون وقومه ، ولا شكّ أنّه قد أدرك بأنّ الاسلوب الأمثل لإقناع فرعون وهو ابن عمّه كما مرّ بترك ما أراد فعله هو النصح والمداراة ، ليكون أقرب إلى الأخذ بأقواله ممّا لو أعلن إيمانه ، فهو قد كذّب وقومه نبيّاً مرسلاً جاءهم بالمعجزات والدلائل الدالّة على صدقه ، فكيف يصدّقون بمن هو دونه وعلى دينه؟
ولقد أكّد هذا المعنى أبو حيّان الأندلسي المالكي (ت / ٧٥٤ ه) بقوله : «قال صاحب التحرير والتحبير : هذا نوع من أنواع علم البيان تسمّيه علماؤنا : استدراج المخاطب. وذلك أنّه لمّا رأى فرعون قد عزم على قتل موسى والقوم على تكذيبه ، أراد الانتصار له بطريق يخفى عليهم بها أنّه متعصّب له ، وأنّه من أتباعه ، فجاءهم من طريق النصح والملاحظة فقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ، ولم يذكر اسمه ، بل قال : (رَجُلاً) يُوهم أنّه لا يعرفه ، ولا يتعصّب له (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ولم يقل : رجلاً مؤمناً بالله ، أو : هو نبيّ ، إذ لو قال شيئاً من ذلك لعلموا إنّه متعصّب ، ولم يقبلوا قوله. ثمّ اتّبعه بما بعد ذلك فقدَّمَ قوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً) موافقة لرأيهم فيه ، ثمّ تلاه بقوله : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) ،
__________________
(١) الدرّ اللقيط / تاج الدين الحنفي ٤٥٨ : ٧.