ومنقول من عندهم لجاز مثل ذلك في العرب ؛ فكنّا لا نأمن أن يكون أكثر العرب قادرين على المعارضة متمكّنين منها ، وإن كانت لم تقع منهم.
فلمّا فسد ذلك في العرب ـ من حيث علمنا أنّ التحدّي لا بدّ أن يبعثهم على إظهار ما عندهم ، بل وعلى تطلّب ما ليس عندهم ـ وجب مثله في الجنّ لو كانت قادرة على مثل القرآن ؛ لعموم التحدّي للكلّ وتوجّهه إلى الجميع ، لا سيّما والقرآن مصحّح لدعوة من نهى عن اتّباع الشياطين والاغترار بهم ، وآمرنا بالاستعاذة منهم والبراءة من أفعالهم.
وهذا كلام في غاية البعد عن الصّواب ؛ لأنّنا إنّما نوجب في العرب المسارعة إلى المعارضة لو كانوا قادرين عليها ، من حيث علمنا توفّر دواعيهم إليها ، وأنّهم قد قاربوا حدّ الإلجاء (١) إلى فعلها. ووجه ذلك ظاهر ؛ لأنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآله حملهم على مفارقة أديانهم ، وخلع آلهتهم ، وتعطيل رياستهم وعبادتهم ، وحرّم عليهم أكثر ما كانت جرت به عاداتهم من المآكل والمشارب والمناكح ووجوه المتصرّفات ، وألزمهم من العبادات والكلف ما يشقّ على نفوسهم ، ويثقل على طباعهم. هذا ، إلى تعجيزه لهم فيما كان إليه انتهاء فخرهم ، وبه علوّ كلمتهم من الفصاحة التي كانت مقصورة عليهم ، ومسلّمة إليهم. وليس هذا ـ ولا شيء منه ـ موجودا في الجنّ ، فيحمل حالهم على العرب!
وأمّا التّحدّي والتقريع فإنّما يأنف منهما من أثّر في حاله وحطّ من منزلته ، فيبادر إلى المعارضة إشفاقا من الضّرر النازل به. فأمّا من لا يشفق من تغيّر حال فينا ، وانخفاض مرتبة عندنا ، وليس مخالطا لنا فيحفل بذمّنا أو مدحنا ، فليس يجب فيه شيء ممّا أوجبناه في غيره.
__________________
(١) أي الاضطرار والإكراه على فعل الشيء.