وقد كان كثير منهم يرتجل الشّعر في المقامات والمحافل المخصوصة ، ويصف في الوقت ما جرى فيها ممّا لم يتقدّم علمه به. وكذلك كانوا يصفون الحروب الّتي تجري بينهم ، ويرتجزون في الحال بذكر ما جرى فيها ، ويعيّرون بقتل من قتل ، وفرار من فرّ ، ونكول من نكل. وهذه الأمور إذا أضيف بعضها إلى بعض خرج منها ما أردناه.
وفي الجملة : إنّ كلّ من ظهر منه الشّعر وغيره ما لا يرجع في إضافته إليه إلّا إلى قوله ، دون دلالة أو أمارة توصلنا إلى صحّة قوله ، فالواجب الشّكّ في حاله. ونهاية ما يصير إليه في أمره عند حسن الظّنّ به ، وقوّة أمارات صدقه ، أن يغلب في الظّنّ أنّه صادق.
فأمّا العلم اليقين فلا سبيل إليه إلّا بسلوك بعض ما قدّمناه. ومن ليس بقويّ البصيرة ـ إذا غلب ظنّه في هذه المواضع ، واستبعد أن يكون الأمر بخلاف ظنّه ـ يعتقد أنّه على علم يقين ، ولو تنبّه على بعض ما أوردناه لعرف أنّه الحقّ ، وهذا واضح لمن نصح نفسه.
* * *
فإن قال قائل : قد بيّنتم لزوم الاعتراض بالجنّ لمخالفيكم ، وكشفتم عن بطلان أجوبتهم عنه ، ولم يبق عليكم إلّا أن تبيّنوا أنّه غير لازم على مذهبكم ، ولا قادح في طريقتكم ، ليتمّ ما أجريتم إليه من الغرض.
قيل له : سقوط هذا السؤال عن مذهب الصّرفة لا إشكال فيه ، وذلك إنّا إذا كنّا قد دللنا على أنّ تعذّر المعارضة لم يكن لفرط الفصاحة ، وإنّما كان لأنّ العلوم الّتي يتمكّنون بها من المعارضة سلبوها في الحال ، فلا معنى للاعتراض بالملائكة والجنّ ؛ لأنّ الأدلّة القاهرة قائمة على أنّ أحدا من المحدثين لا يتمكّن أن يفعل في قلب غيره شيئا من العلوم ولا من أضدادها ، بل لا يقدر أن يفعل فيه شيئا من أفعال