وأمّا اعتبار العادة فيما يختصّ القديم تعالى بالقدر عليه فلا بدّ منه ؛ لأنّ الاستدلال على النّبوّة يفتقر إليه ، حسب ما ذكرناه في ما تقدّم. فأمّا ما يجوز دخوله تحت مقدور من لا نأمن أن يفعل القبيح ، فإنّ اعتبار العادة والاستدلال بخرقها ، إنّما يصحّان متى (١) أمنّا أن يكون وقع من مستفسد فاعل للقبيح ؛ لأنّا متى أمنّا ذلك عاد الأمر ـ في صحّة الاستدلال ـ إلى الوجه الّذي دلّ أنّ أحد الأمرين تعلّق بالآخر ، حتّى يقال : من فساد هذا فسد ذلك.
فإن قال : فكيف السّبيل إلى العلم ـ فيما يجوز دخوله تحت مقدور غير القديم جلّ وعزّ ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح من ملك أو جنّيّ ـ أنّه لم يقع إلّا منه تعالى ، حتّى يستدلّ به على النّبوّة؟
وإذا كان لا سبيل إلى ذلك عاد الأمر إلى أنّ الّذي يدلّ على النّبوّات ، هو ما يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه ؛ وبطل قولكم إنّ ما يشاركه في القدرة على جنسه قد يدلّ أيضا.
قيل له : قد يمكن ذلك بأن يعلم من الأمر الظّاهر كالقرآن مثال أنّه متعذّر على البشر ، إذا تحدّى به فصحاءهم فقعدوا عن معارضته ، مع توفّر الدّواعي وقوّة البواعث. ويعلم أنّ حكم من ليس بفصيح منهم حكم الفصحاء في التّعذّر لا محالة.
ويعلم أنّه ليس من فعل ملك ولا جنّيّ ، بأن يكون الله تعالى قد أعلمنا على يد بعض رسله ؛ فمن أيّده بمعجز خارج عن أجناس مقدورات جميع المحدثين ، كفعل الحياة واللّون واختراع الجسم ، يبلغ ما ينتهي إليه الملائكة والجنّ في الفصاحة ، وأنّ عادتهم فينا كعادتنا ، والغايات التي ينتهون إليها لا تجاوز غاياتنا ؛ فحينئذ يصحّ الاستدلال به على النّبوّة ، وإن كان جنسه مقدورا لغير الله تعالى.
__________________
(١) في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.