بل ما لم تجر عادة العقلاء ـ ولا الصّبيان ـ بمثله؟!
لأنّا قد بيّنا أنّ جميع من يتحدّى ويقرّع بالعجز عن بعض الأمور لا يجوز أن يفزع في المخرج منه إلّا إلى فعله ، إذا كان ممكنا ، وأنّ عدوله عنه مع ارتفاع الموانع دليل على تعذّره وقصوره عنه. وأشرنا إلى عادات جميع النّاس في هذا الباب ، وإن كنّا قد بيّنا أنّ للعرب في ذلك فضل مزيّة ، لاختصاصهم بعادة التّحدّي بالشّعر وما جرى مجراه والتّفاخر فيه ، وأنّ أحدا منهم لم يعدل عنه عند تقريع نظير (١) له ، وتحدّيه بقصيدة من الشّعر إلى حربه وقتاله ، ولا فعل ذلك واعتذر منه بمثل ما اعتذر به في ترك معارضة القرآن.
والجواب عمّا ذكرناه رابعا : إنّا قد بيّنا أنّ التّحدّي وقع بفعل ما يقارب القرآن ويدانيه ، لا بما يماثله على التّحقيق ، ولا شيء أدلّ على مقاربة ما يأتون به القرآن وأشباهه من وقوع الاختلاف بين أهل العلم بالفصاحة فيه ؛ لأنّ مثل ذلك لا يكون في البعيد المتفاوت ؛ فلو أتوا بما يختلف النّاس فيه هذا الضّرب من الاختلاف ، كانوا (٢) قد فعلوا ما وجب عليهم ، لأنّه لم يتحدّهم إلّا بهذا بعينه ، على ما تقدّم بياننا له.
على أنّ ما ذكروه لا يصحّ أن يكون مانعا من فعل المعارضة ؛ لأنّ أكثر ما في الأمر أن يكونوا إذا عارضوا اشتبه على قوم فاعتقدوا أنّهم لم يخرجوا عمّا وجب عليهم إذ أظهروا اعتقاد (٣) ذلك ، عنادا وعصبيّة ، وإن كان من عداهم من النّاس جميعا يعتقد خروجهم من الواجب ، ووقوع معارضتهم موقعها.
والعاقل لا يختار أن يكون عند جميع العقلاء ملوما محجوجا مشهودا عليه
__________________
(١) في الأصل : تقريع نظر ، والمناسب ما أثبتناه.
(٢) في الأصل : وكانوا ، وما أثبتناه هو المناسب.
(٣) في الأصل : اعتقادا ، والمناسب ما أثبتناه.