بعض ما انتهت إليه حال الرّسول صلىاللهعليهوآله ، من القوّة والظّهور ، وكثرة المستجيبين ، وتظاهر الأعوان والأنصار ، والتمكّن من الأعداء ، وبلوغ المراد فيهم ؛ فإنّ أحدا من العقلاء لا يعدّ الإمساك عن الاحتجاج والمعارضة هاهنا حزما ، بل غاية الجهل ونهاية العجز ؛ فقد كان يجب أن يكونوا كفّوا عن المعارضة ابتداء ، للعلّة الّتي ذكرت أن يسابقوها (١) عند بلوغ الأمر المبلغ الّذي ذكرناه.
وبعد ، فإنّ من يطّرح قوله ويعرض عن محاجّته ومواقفته ـ اعتقادا لظهور أمره ، وأنّ الشّبهة لا تعترض في مثله ـ لا يحارب ولا يغالب ، ولا تعمل الأفكار في نصب المكائد له وإيقاع الحيل عليه ، ولا يعارض بما لا شبهة في مثله ، ولا يقال له : لو شئنا [لقلنا] مثل قولك ف (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) (٢) ، ولا تقترح عليه الآيات ، ولا تبذل الأموال لمن يهجوه ويقذفه ؛ لأنّ كلّ شيء من هذه الأمور يدلّ على غاية الاهتمام ، ونهاية الحرص.
وكيف يعتقد عاقل أنّ ترك المعارضة كان على سبيل الاطّراح وقلّة الاكتراث ، كما يستعمل مع الأغبياء والمجّان ، ومن لا تأثير لفعله وقوله؟!
والجواب عمّا ذكرناه سابعا : إنّا لو سلّمنا جواز ما ظنّوه من مواطأة جماعة له على إظهار المعجز ، وفرضنا أيضا أنّ هذه الجماعة كانت أفصح العرب ، لم يكن ذلك بنافع لخصومنا في ردّ استدلالنا بالقرآن ؛ لأنّ غير هذه الجماعة ممّن لم يواطئ قد كان يجب أن يعارض بما يقدر عليه ويتمكّن منه ؛ فإنّ هذه الجماعة ـ وإن فرضنا أنّها أفصح ـ فليس يجوز أن يبعد كلامها من كلام من كان دونها في الفصاحة البعد التامّ ، حتّى لا يكون فيه ما يقاربه ويشابهه. بهذا جرت العادات في التّفاضل في جميع الصّنائع ، وقد بيّنا أنّ إتيانهم بما يقارب ويداني كاف في إقامة الحجّة ؛
__________________
(١) كذا في الأصل.
(٢) سورة يونس : ١٥.