أفل هذا أيضا واحتجب ، واختفى نوره واستتر ، قال كما روى القرآن الكريم ، ذلك حكاية عنه :
(لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧).
بيّن لهم أن الله خالق الهداية ، ومانح التوفيق. ثم رأى إبراهيم الشمس بازغة يتألق نورها وينبعث منها شعاعها ، وقد كست الدنيا جمالا ، وملأت الأرض حياة وبهاء ، وأرجاء الكون نورا وضياء ، فقال : هذا ربي ، هذا أكبر من كل الكواكب ، وأكثر نفعا ، وأجل شأنا ، فلما أفلت كغيرها ، وغابت عن عبادها ، رماهم بالشرك وقال كما روى القرآن ، حكاية عنه :
(إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨).
فهذه الكواكب التي تنتقل من مكان إلى مكان ، وتتحوّل من حال إلى حال ، لا بد لها من خالق يدبرها ويحركها ، وإله ينظمها ويسيّرها ؛ فهي لا تستحق عبادة ولا تعظيما.
وبعد أن أعلن إبراهيم انصرافه عن آلهتهم ، وبراءته من معبوداتهم أفاض الحديث عن إخلاصه لله بعبادته وخضوعه ، فقال كما ورد في محكم التنزيل :
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩).
ولقد كان إبراهيم جريئا في إعلان إيمانه ، وإخلاصه لربّه ، ومجادلة قومه ، وإفهامهم أن غير الله لا ينفع ولا يضرّ ، وأن الله وحده هو النافع الضارّ ، والمعطي المانع ، وهو على كل شيء قدير. وقد ناقش إبراهيم أباه ، وأوضح له طريق الهدى ، وأخلص الدعاء لأبيه أن يلهمه الله طريق الهداية والرشاد ، فلما تبيّن لإبراهيم أنّ أباه عدوّ لله تبرّأ منه. وهكذا كان إبراهيم عمليا في دعوته ، عمليّا في هجرته وعزلته.
وقد ظهرت قدرة إبراهيم وإخلاصه وتضحيته ، حينما حطّم الأصنام ، ولام قومه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ، وظهرت بطولة إبراهيم حينما امتحنه الله بذبح ولده إسماعيل ، فامتثل إبراهيم لأمر ربّه ، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى :
(يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) [الصافات].