قلنا : معناه أنهم أقاموا المكاء والتصدية ، مقام الصلاة ، كما يقول القائل زرت فلانا ، فجعل الجفاء صلتي : أي أقام الجفاء مقام صلتي ، ومنه قول الفرزدق :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه |
|
أداهم سودا أو محدرجة سمرا |
أراد بالأداهم القيود وبالمحدرجة السياط ، ووضعهما موضع العطاء.
فإن قيل : في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨) لم ينته الكافرون عن الكفر ، فلم قال سبحانه (وَإِنْ يَعُودُوا) [الآية ٣٨] والعود إلى الشيء ، إنّما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟
قلنا : معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول الله (ص) ومحاربته ، يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ؛ وإن يعودوا إلى قتاله وعداوته ، فقد مضت سنة الأولين منهم ، الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر ، أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية. وقيل معناه : إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان ، يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، كما قال النبي (ص) «الإسلام يجبّ ما كان قبله» وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا ، فقد مضت سنة الأولين من الأمم ، من أخذهم بعذاب الاستئصال.
فإن قيل : الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة ، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين ، وتثبيت أقدامهم ، وزيادة اجترائهم على القتال ؛ فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفّار ، حتى قال الله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الآية ٤٤] مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين ، وتثبيت أقدامهم ، واجتراؤهم على القتال؟
قلنا : فائدته أن لا يستعد الكفّار كلّ الاستعداد ، فيجترءوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيدهشوا ويتحيّروا ؛ وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق ، إذ رأوا المؤمنين مع قلّتهم في أعينهم ، منصورين عليهم. وفي التقليل من الطرفين معارضة ، تعرف بالتأمل.
فإن قيل : قوله تعالى (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الآية ٤٦] يدلّ على حرمة المنازعة والجدال أيضا ،