مبصرة للعاشي (١) ومذكرة للنّاسي ، ومظنّة لاعتبار المعتبر ، وتفكّر المفكر. لأن من عجائب تلك الناقة تمخّض الصخرة بها من غير حمل بطن ، ولا فرع فحل. وأنها كانت تقاسم ثمود الورد ؛ فلها يوم ، ولثمود يوم.
قال سبحانه : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١٥٥) [الشعراء] فإذا كان يومها شربت فيه الماء مثلما كانت ثمود تأخذ أشقاصها (٢) وزروعها ، وأصرامها (٣) وشروبها. وهذا من صوادح العبر ، وقوارع النذر.
وقال بعضهم يجوز أن يكون معنى «مبصرة» هاهنا أي ذات إبصار. والتأويلان يؤولان إلى معنى واحد.
وقوله سبحانه عن إبليس : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٦٢) وهذه استعارة على بعض التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك. أي لأقودنّهم إلى المعاصي ، كما تقاد الدابة بحنكها ، غير ممتنعة على قائدها. وهي عبارة عن الاستيلاء عليهم ، والامتلاك لتصرفهم ، كما يمتلك الفارس تصرّف فرسه ، بثني العنان تارة ، وبكبح اللجام مرة.
وقال يعقوب (٤) في «إصلاح المنطق» يقال : حنك الدّابة يحنكها حنكا ، إذا شدّ في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. وقد احتنك الدّابة (٥) مثل حنكها إذا فعل بها ذلك.
وقال بعضهم عن قوله تعالى : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أي لألقينّ في أحناكهم حلاوة المعاصي ، حتى يستلذّوها ، ويرغبوا فيها ويطلبوها. والقول الأول أحبّ إليّ.
وقال بعضهم : لأستأصلنّ ذريته
__________________
(١). العاشي اسم فاعل من عشا عن الشيء ، أي أعرض وصدر عنه إلى غيره.
(٢). الأشقاص : جمع شقص بكسر الشين ، وهو القطعة من الشيء أو من الأرض.
(٣). الأصرام : جمع صرم بكسر الصاد ، وهو الجماعة من الشيء أو من البيوت.
(٤). هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ، المعروف بابن السّكّيت ، وكان أبوه من أصحاب الكسائي المشهور في اللغة والنحو. أما صاحبنا فقد شهد له المؤرخون بالعلم الغزير في اللغة والشعر والثقة في الرواية. وكتابه «إصلاح المنطق» يقول فيه المبرّد : «ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكّيت في المنطق» توفي سنة ٢٤٤. وقد طبع «إصلاح المنطق» طبعة موثقة بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر ، وعبد السلام محمد هارون.
(٥). في «إصلاح المنطق» ص ٨٢ (وقد احتنك دابته).