ونصيب من الجهل .. فبسط حكمه عليهم ونفّذ فيهم دستور العدل ، ومكافأة المحسن ، ومعاقبة المسيء الذي سبق ذكره ، ثم تركهم إلى الشمال غازيا مجاهدا مظفّرا منصورا ، حتى انتهى إلى بلاد بين جبلين يسكنها أقوام لا تكاد تعرف لغاتهم ، أو يفهم في الحديث مرماهم ، ولكنهم قد جاوروا يأجوج ومأجوج ، وهم قوم مفسدون في الأرض ، وأوزاع (١) من الخلق ضالّون مضلّون.
وقد لجأ الأقوام إلى ذي القرنين ليحول بينهم وبين المفسدين ، وشرطوا على أنفسهم نولا يدفعونه إليه ، وأموالا يضعونها بين يديه. ولكنّ ذا القرنين أجابهم إلى طلبهم ، وردّ عطاءهم وقال لهم ، كما روى القرآن ذلك ، حكاية عنه :
(ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) [الآية ٩٥].
ثم طلب إليهم أن يعينوه على ما يفعل ، فحشدوا له الحديد والنحاس ، والخشب والفحم ، فوضع بين الجبلين قطع الحديد وحاطها بالفحم والخشب ، ثمّ أوقد النار ، وأفرغ عليه ذائب النحاس ، واستوى ذلك كله بين الجبلين سدّا منيعا قائما ، ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن تظهره لملاسته ، أو تنقبه لمتانته ؛ وأراح الله منهم شعبا كان يشكو من أذاهم ، ويألم من عدوانهم.
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولكنه ذكر الله فشكره ، وردّ إليه العمل الصالح الذي وفّقه إليه ، وتبرّأ من قوته إلى قوة الله ، وأعلن عقيدته في البعث والحشر ، وإيمانه بأنّ الجبال والحواجز والسدود ستدكّ قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا ؛ وهكذا تختم هذه القصة ، بتأكيد قدرة الله سبحانه ، على البعث ؛ قال تعالى :
(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨).
«وبذلك تنتهي قصة ذي القرنين ، النموذج الطيّب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في الأرض ، وييسّر له الأسباب ، فيجتاح الأرض شرقا وغربا ، ولكنه لا يتجبّر ولا يتكبّر ، ولا يطغى ولا يتبطّر ولا يتّخذ من الفتوح وسيلة للغنم
__________________
(١). الأوزاع : الجمادات ، ولا واحد لها.