لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى |
|
تزجّجها من حالك واكتحالها |
ومعناه لقد علم الأيقاظ عيونا. فجعل العين للنوم في أنها مشتملة عليه ، كالخفاء للقربة في أنه مشتمل عليها.
وقول الشاعر : «أخفية الكرى» من الاستعارات العجيبة ، والبدائع الغريبة. وقوله : «تزجّجها من حالك واكتحالها» ، يعود على العيون ، كأنه قال تزجّج العيون واكتحالها من سواد الليل. وهذا لا يكون إلّا مع السهر وامتناع النوم ، لأن العيون حينئذ بانفتاحها تكون كالمباشرة لسواد الظلماء ، فيكون كالكحل لها.
والتزجّج : اسوداد العينين من الكحل. يقال زجّجت (١) المرأة عينها وحاجبها. إذا سودتهما بالإثمد.
وعلى التأويل الاخر يبعد الكلام عن طريق الاستعارة ، وهو أن يكون أكاد هاهنا بمعنى أريد ، كما قلنا فيما مضى (٢). ومن الشواهد على ذلك قول الشاعر :
أمنخرم شعبان لم تقض حاجة |
|
من الحاج كنّا في الأصمّ (٣) نكيدها |
أي كنا نريدها في رجب ، ويكون (أُخْفِيها) على موضوعه ، من غير أن يعكس عن وجهه. ويكون المعنى : إن الساعة آتية أريد أستر وقت مجيئها ، لما في ذلك من المصلحة. لأنه إذا كان المراد بإقامتها المجازاة على الأفعال ، والمؤاخذة بالأعمال ، كانت الحكمة في إخفاء وقتها ليكون الخلق في كلّ حين وزمان على حذر من مجيئها ، ووجل من بغتتها ، فيستعدّوا قبل حلولها ، ويمهّدوا قبل نزولها.
ويقوّي ذلك قوله سبحانه : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥).
__________________
(١). ومنه قول الشاعر الراعي النميري :
إذا ما الغانيات برزن يوما |
|
وزجّجن الحواجب والعيونا |
وهذا البيت من شواهد النحو في باب المفعول معه. انظر «أوضح المسالك ، إلى ألفية ابن مالك» الشاهد ٢٥٩.
(٢). في الآية رقم ٧٧ من سورة الكهف.
(٣). الأصمّ : شهر رجب ، وسمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت السلاح ، لكونه شهرا حراما. انظر لسان العرب. وقال الخليل : إنّما سمّي بذلك ، لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث ، ولا حركة قتال ولا قعقعة سلاح ، لأنه من الأشهر الحرم.