قولهم أمرته فعصاني ، وأمرته فخالفني ، لا يفهم الأمر بالمعصية ولا الأمر بالمخالفة. الثاني : أن معناه كثّرنا مترفيها ، يقال أمرته وآمرته بالمد والقصر يعني كثّرته وقد قرئ بهما ، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة وسكّة مأبورة» ، أي كثيرة النتاج والنسل. والثالث أن معناه أمّرنا مترفيها بالتشديد ، يقال أمّرت فلانا بمعنى أمرته : أي جعلته أميرا ، فمعنى الآية سلطانهم بالإمارة ، ويعزّز هذا الوجه قراءة من قرأ (أمّرنا) بالتشديد. وقال الزمخشري رحمهالله : لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز ، فكيف يقدّر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه ، وذلك لأن قوله تعالى (فَفَسَقُوا) يدل على أن المأمور به المحذوف ، هو الفسق ، وهو كلام مستفيض ، يقال أمرته فقام ، وأمرته فقعد ، وأمرته فقرأ ؛ لا يفهم منه ، إلا أن المأمور به القيام والقعود والقراءة ؛ بخلاف قولهم أمرته فعصاني ، وأمرته فخالفني ؛ حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة ؛ لأن ذلك مناف للأمر ، مناقض له ؛ ولا يكون ما يناقص الأمر وينافيه مأمورا به ، فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ، ولا منويّ ؛ والمتكلم بمثل هذا ، لا ينوي لأمره مأمورا به ؛ بل كأنه قال : كان منّي أمر ، فلم تكن منه طاعة ، أو كانت منه مخالفة ؛ كما تقول : مر زيدا يطعك ، وكما تقول : فلان يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، ويضرّ وينفع ؛ فإنّك لا تنوي مفعولا.
فإن قيل : على هذا ، حقيقة أمرهم بالفسق ، أن يقول لهم افسقوا ؛ وهذا لا يكون من الله ، فلا يقال يقدّر الفسق محذوفا ، ولا مأمورا به.
قلنا : الفسق المحذوف المقدر ، مجاز عن إترافهم ؛ وصب النعم عليهم صبّا ، أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي ، ووسيلة إلى اتّباع الشهوات ؛ فكأنهم أمروا بذلك ، لمّا كان السبب في وجوده الإتراف ، وفتح باب النعم.
فإن قيل : لم لا يكون ثبوت العلم ، بأن الله لا يأمر بالفحشاء ، وإنما يأمر بالطاعة والعدل والخير ، دليلا على المراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا.
قلنا : لو جاز مثل هذا الإضمار والتقدير ، لكان المتكلّم مريدا من مخاطبه علم الغيب ؛ لأنه أضمر ما لا