من النعم ، وبالثانية ما تقدمها ، وبالثالثة ما تقدم على الأولى والثانية والرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة ، وهكذا إلى آخر السورة.
فإن قيل : كيف يكون قوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) نعمة ، وقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) نعمة ، وكذلك قوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) وقوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) وقوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ).
قلنا : هذه كلها نعم جسام ، لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم ، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان ، والانقياد والإذعان. فإن من حذر من طريق الردى ، وبين ما فيها من الأذى ، وحث على طريق السلامة ، الموصلة إلى المثوبة والكرامة ، كان منعما غاية الإنعام ، ومحسنا غاية الإحسان. ومثل ذلك قوله (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط ، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام. وأما قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] ، فإنه تذكير بالموت والفناء ، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء ، وفي الإعراض عن دار الفناء. انتهى.
وقال البغوي : كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها. ثم عدد على الخلق آلاءه ، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ، ليفهمهم النعم ويقررهم بها. كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وتابع إليه بالأيادي ، وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك ، أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب انتهى.
وقال السيد مرتضى في (الدرر والغرر) : التكرار في سورة الرحمن ، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعدّدة ، فكلما ذكر نعمة أنعم بها ، وبّخ على التكذيب ، كما يقول الرجل لغيره : ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير ، لاختلاف ما يقرر به ، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم ، كقول مهلهل يرثي كليبا :
على أن ليس عدلا من كليب |
|
إذا ما ضيم جيران المجير |
على أن ليس عدلا من كليب |
|
إذا رجف العضاه من الدّبور |