فإن قلت : إذا تم ما تريد من حمل (الطاهر) على من ليس بمشرك ، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس (١) أنه صلىاللهعليهوسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم : أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين. و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) إلى قوله : (مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] ، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم؟
قلت : أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين ، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار ، لمصلحة ، كدعائه إلى الإسلام. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ، ككتب التفسير ، فلا تخصص به الآية والحديث. إذا تقرر لك هذا ، عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك. وقد عرفت الخلاف في الجنب. وأما المحدث حدثا أصغر ، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن عليّ والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى : لا يجوز. واستدلوا بما سلف ، وقد سلف ما فيه. انتهى كلام الشوكاني.
تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون :
قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) في مباحث أمثال القرآن الكريم ، ما مثاله : الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني ، أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ، ولا يقصّر بها ، ويعطي اللفظ حقه ، والمعنى وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه ، وأخبر أنهم أهل العلم. ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني ، والعلل ونسبة بعضها إلى بعض ، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره ، ويلغى ما لا يصح ، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري : الاستنباط كالاستخراج. ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط ، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط ، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ، ومقاصد المتكلم. والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه ، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه. يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير
__________________
(١) أخرجه البخاري في : بدء الوحي ، ٦ ـ حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حديث رقم ٧.