قال العتبي في أول (تاريخه) : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافرا ، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة ، حتى أعملت التفكر ، فوجدت (الكتاب) قانون الشريعة ، ودستور الأحكام الدينية ، يتضمن جوامع الأحكام والحدود ، وقد حظر فيه التعادي والتظالم ، ودفع التباغي والتخاصم ، وأمر بالتناصف والتعادل ، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة ، فلذا جمع (الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف ، وجذوة عقابه ، وعذاب عذابه ، وهو (الحديد) الذي وصفه الله بالبأس الشديد. فجمع بالقول الوجيز ، معاني كثيرة الشعوب ، متدانية الجنوب ، محكمة المطالع ، مقومة المبادئ والمقاطع ـ نقله الشهاب ـ.
وأوّل القاشاني (البينات) بالمعارف والحكم ، و (الْكِتابَ) بالكتابة ، و (الْمِيزانَ) بالعدل ، لأنه آلته ، و (الْحَدِيدَ) بالسيف ، لأنه مادته. قال : وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي ، وينضبط الكليّ ، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد ، إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول ، هو العلم والحكمة. والأصل المعول عليه في العمل ، والاستقامة في طريق الكمال ، هو العدل ، ثم لا ينضبط النظام ، ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذين يتم بهما أمر السياسة. فالأربعة هي أركان كمال النوع ، وصلاح الجمهور. ويجوز أن تكون (البينات) إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية و (الْكِتابَ) إشارة إلى الشريعة والحكم العملية و (الْمِيزانَ) إلى العمل بالعدل والسوية و (الْحَدِيدَ) إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل : (البينات) العلوم الحقيقية ، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية. أي الشرع ، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات ، والملك. وأيّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين ، إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل ، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم ، أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن الإنسان مدني بالطبع ، محتاج إلى التعامل والتعاون ، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع. والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع ، منقادة للشرع ، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع. فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع. والثانية لا بدّ لها من القهر وسياسة الملك. انتهى.
تنبيه :
لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول ، حيث ذكر