التي لا تحتمل التأويل ويبطلها وينسخها ، فإنه كفر وضلال ولا يقول به ، ولا يعول عليه ، إلا المارقون الجاحدون وأما غير المنصوص عليه ، أعنى ما لم يكن قاطعا في بابه ، من آية محكمة ، أو خبر متواتر ، أو إجماع من الفروع النظرية ، والمسائل الاجتهادية المدونة ، فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعدّ ضلالا ولا كفرا ، لأنه ليس من مخالفة الشرع في شيء ، إذ الشرع ما شرعه الله ورسوله ، وأحكم الأمر فيه ، وبين بيانا رفع كل لبس ، لا ما تخالف فيه الفقهاء ، وكان مأخذه من الاجتهاد ، وإعمال الرأي ، فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ ، مهما بلغ رائيه من المكانة إذ لا عصمة إلا في نص الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وكثيرا ما تتشابه فروع الفقهاء بمواد القانون ، ولذا ألف بعض المتأخرين كتابا في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية ، وذلك لأن مورد الجميع واحد ، وهو الرأي والاجتهاد ورعاية المصلحة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في هذا المعنى سماه (السياسة الشرعية) وكذا لتلميذه الإمام ابن القيّم ، وهو أوسع. ولنجم الدين الطوفي أيضا رسالة في المصالح المرسلة. جمعناها من شرحه للأربعين النووية. وقد أرجع العز بن عبد السلام فروع الفقه في قواعده إلى قاعدتين : اعتبار المصالح ، ودرء المفاسد.
قال القاضي زكريا : وبحث بعضهم رجوع الجميع إلى جلب المصالح.
وقال الشاطبيّ في (الموافقات) : إن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية ، وبأن تكون مصالح على الإطلاق ، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديّا وكليّا وعامّا في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال.
وقال نجم الدين الطوفي : إن قول النبيّ صلىاللهعليهوسلم (لا ضرر ولا ضرار) (١) يقتضي رعاية المصالح إثباتا ونفيا ، والمفاسد نفيا ، إذ الضرر هو المفسدة ، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة ، لأنهما نقضيان لا واسطة بينهما. ثم إن أقوى الأدلة النص والإجماع ، وهما إما أن يوافقا رعاية المصلحة ، أو يخالفاها ، فإن وافقاها ، فبها ونعمت ، ولا تنازع. إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم ، وهي النص والإجماع ، ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليهالسلام (لا ضرر ولا ضرار) ، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما ، لا بطريق الافتئات عليهما ، والتعطيل لهما ، كما تقدّم السنّة على القرآن ، بطريق البيان ، انتهى. وتتمة كلامه جديرة بالمراجعة ، هي وتعليقاتنا عليها ، فابحث ولا تكن أسير التقليد ، بل ممّن ألقى السمع وهو شهيد.
__________________
(١) أخرجه ابن ماجة في : الأحكام ، ١٧ ـ باب من بنى في حقه ما يضرّ جاره ، حديث رقم ٢٣٤٠.