قال الرازي : قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى : العزة غير الكبر ، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه ، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه ، وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية. كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه ، وإنزالها فوق منزلها. فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة ، وتختلف من حيث الحقيقة ، كاشتباه التواضع بالضعة ، والتواضع محمود ، والضعة مذمومة ، والكبر مذموم ، والعزة محمودة. ولما كانت غير مذمومة ، وفيها مشاكلة للكبر ، قال تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأحقاف : ٢٠]. وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق ، والوقوف على حد التواضع ، من غير انحراف إلى الضعة ، وقوف على صراط العزة المنصوب على نار الكبر.
القول في تأويل قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي : لا يشغلكم الاغتباط بها عن ذكر أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، أو ذكر ما أنزله وأوحى به. ومنه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. فإن مقتضى الإيمان أن لا يبالي المؤمن بعزة المال والولد ، مع عزة الله (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته ، كما قال سبحانه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [الحشر : ١٩]. (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) أي أتصدق وأخرج حقوق مالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها). أي لن يؤخر في أجل أحد إذا حضر ، ولكن يخترمه.
قال القاشاني : معنى قوله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) إن صدقتم في الإيمان ، فإن قضية الإيمان غلبة حب الله على محبة كل شيء ، فلا تكن محبتهم ومحبة الدنيا ، من شدة التعلق بهم وبالأموال ، غالبة في قلوبكم على محبة ، فتحتجبوا بهم عنه ، فتصيروا إلى النار ، فتخسروا نور الاستعداد الفطري بإضاعته فيما