وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل ، وإما تحريمه مارية القبطية. وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية ، وليس يمينا بالله ، لهذا أفتى جمهور الصحابة ، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم. أن تحريم الحلال يمين مكفرة ، إما كفارة كبرى كالظهار ، وإما كفارة صغرى كاليمين بالله. وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا.
وأيضا فإن قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام. وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها. وإما لم تحرمه مطلقا ، فإن أريد الأول والثالث ، فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله تعالى ، ثم فيعم ، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله ، فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال. ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية. لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل ، فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيّا ، لا شرعيّا. فكلّ يوجب امتناعه من الفعل ، فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في قوة قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وحينئذ فقوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال ، لأن هذا حكم ذلك الفعل ، فلا بد أن يطابق صوره ، لأن تحريم الحلال هو سبب قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وسبب الجواب إذا كان عامّا كان الجواب عامّا ، لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض ، مع قيام السبب المقتضي للتعميم.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) الذين أوجبوا كفارة اليمين بالتحريم أسعد بالنص من الذين أسقطوها. فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقيب قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان ، إما مختصا به ، وإما شاملا له ولغيره ، فلا يجوز أن يخلي سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة ، ويتعلق بغيره ، وهذا ظاهر الامتناع.
وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم ، كالمنع منه باليمين ، بل أقوى. فإن اليمين ، إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه ، فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره ، فإنه إذا شرع حلالا فحرمه المكلف ، كان تحريمه هتكا لحرمة ما شرعه.
ونحن نقول : لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الاسم ، ولا التحريم هتك حرمة الشرع ، كما يقوله من يقوله من الفقهاء ، وهو تعليل فاسد جدّا ، فإن الحنث إما جائز ، وإما واجب ، أو مستحب. وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه ، وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة.